مجالس الذكر
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن لِله تبارك وتعالى ملائكةً سيارةً، فُضُلاً يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ...». ومجالس الذكر هذه هي مجالس الحلال والحرام، وذكر الله تعالى بالغدو والآصال، التي يكون أهلها جلساءَ الله وخواصه من خلقه، هي المجالس التي يُعظم فيها الحق سبحانه بذكر اسمه وصفاته وآلائه، وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي رفع الله ذكره فلا يذكر إلا ذكر معه، وذلك بذكر سيرته من نبعته إلى بعثته، ووفاته، بذكر شمائله وأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، هي المجالس التي يُعظم فيها مَن عظمه الله تعالى وأعلى شأنه ومكانته، وأمر عباده بتعزيره وتوقيره، وألا يكون نداؤهم له كنداء بعضهم بعضا بالاسم المجرد أو الخطاب الموهِم، بل أن يكون بما يقتضيه مقامه من التبجيل والتوقير، هي المجالس التي يمدح فيها سيد الوجود وزين كل مولود بما يليق به من المِدحة التي كان يحبها، ويخلع بردته من أجلها، ويشجع أصحابه عليها؛ لما في ذلك من ترسيخ محبته في القلوب، فتكون باب الوصول إلى كل مطلوب من خيري الدنيا والأخرى، هي المجالس التي تُذكِي القلوب بمحبة حبيب الله وخليله، ويربو فيها الإيمان، ويدحر فيها الشيطان، وتحضرها ملائكة الرحمن. هذه المجالس التي تكثر هذه الأيام في بلاد الإسلام بمناسبة ذكرى ولادة أكرم مولود في هذا الوجود؛ لما جعل الله فيه من الرحمة العامة والنفع العظيم للعالمين، فبولادته حفظت السماء عن استراق السمع، وأمن الله مَن في الأرض، وظهرت الآيات الدالة على أن له شأنا عظيما عند الله، فقد كانت الكهان تترقب ولادته عن كثب، وأهل الكتاب يتربصون ذلك بجد وطلب، الولادة التي كان النبي يجدد ذكراها كل أسبوع فيصوم يوم الاثنين لأنه ولد فيه، ويخبر عن بدء أمره، فيقول: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام»، الولادة التي كانت فاتحة الخير للبشرية، أمنت ببركته من عذاب الاستئصال، وعادت ببعثته الحنيفية التي غيرتها الأجيال. فها هي اليوم الأمة المحمدية تحيي ذكراها بتجديد الولاء له؛ إيمانا به، ومحبة له، واتباعا لهديه، وتأسيا بسنته، وتمثلا بأخلاقه وشمائله، الولادة التي امتدحها عمه العباس بن عبدالمطلب بأبيات منها:
وأنت لما وُلدت أشــــرقت الأر ض وضاءت بنورك الأُفقُ
فنحن في ذلك الضياء وفي الـ نور وسُبْل الرشاد نخترقُ
وقال له صلى الله عليه و سلم: «لا يفضضِ اللهُ فاك»، تجيء ذكرى مولده هذه السنة والعالم الإسلامي غارق في فتن ومحن، بسبب بعده عن هدي نبيه وسيرته، فهل يستفيد من ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم؟ ويعلم أن نبيه بعث برحمة الصغير وتوقير الكبير، وبالمحبة للشريف والحقير، والإيثار بالقليل والكثير، والنصح لله ورسوله والمؤمنين وولاة أمورهم، والرغبة في ما عند الله والزهد عما في أيدي الناس، والنظر إلى الآخرة كأنها رأي العين؟ إلى غير ذلك مما يكون في هذه المجالس، فتحيا القلوب بذلك، ويتجدد الإيمان، ويتعظ أهل الحِجى والوجدان، {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} اللهم نرجو.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .