أنفلونزا التظاهر
هذه المرّة تخلت الأنفلونزا عن قميصها «الفيروسي» الذي تغلغل في الطيور ومن ثم في الخنازير، وكفت عن تجوالها الجرثومي في أصقاع الكوكب، والبحث الأحمق عن المطعوم الذي يحاصرها ويلجم انتشارها.
هذه المرة كفت الانفلونزا عن إقامتها التحليلية في القوارير والمختبرات الطبية، وتلك الملامح الصارمة للعلماء، وهم يعانون الداء والدواء، واتخذت شكلاً مغايراً، شكلاً صارت له القدرة على معطيات الجغرافيا السياسية العربية الراكدة.
هذه المرّة حلّت الانفلونزا في الجماهير العربية تحديداً، وأصابتهم بأنفلونزا الثورة على الحكام والأنظمة، وجعلتهم يذهبون نحو الميادين في وسط العواصم، وجعلتهم يهتفون بصوت واحد «الشعب يريد إسقاط النظام». ويقدمون الشهيد تلو الشهيد، حتى يقطفوا انتصارهم المُدهش.
هذه المرّة كانت ظهيرة عادية جداً في فضاء العاصمة التونسية، بينما المواطن التونسي البسيط (البوعزيزي)، الذي يقود عربة الخضار، يتعرض للضرب ولمصادرة عربته «بوابة رزقه الوحيدة»، وكان على ذاك المواطن البسيط أن يعبر عن احتجاجه الأسطوري، حين قام بإحراق جسده في وسط الشارع التونسي، ليشهد على ذلك الاسفلت والناس، وكان ذاك المشهد هو قدح الشرارة الأولى التي جعلت الجماهير التونسية تصاب بفيروس التظاهر الجميل، وبفيروس الثورة الذي غاب عن أجسادهم وحناجرهم وقوة إرادتهم طويلاً، وكان أن انتصرت الثورة، وأطاحت بالنظام.
وما كان أحد يقوى على التوقع من أن فيروس أنفلونزا الثورة التونسي، قد ينتقل الى ميدان التحرير المصري، ويفح تلك القوة الصارمة في جسد الشباب المصري الذي أشعل ثورة بيضاء في ميدان التحرير في 25 يناير، استمرت لمدة 18يوماً، لتقوم بإسقاط النظام كما أرادت. واستطاعت إملاء شروطها كما أرادت.
عدوى انفلونزا التظاهر والثورات انتقلت الى اليمن، وأطلقت الفقراء من بيوتهم البسيطة، ومن حواريهم التي أكلها الفقر، وجعلت الشعب اليمني في الشمال والجنوب يخرج هو الآخر الى الشوارع والميادين.
وعدوى التظاهر والثورات لم تتوقف عند هذا الحد، بل ذهبت هذه المرّة الى ليبيا كي توقظ جماهير طرابلس وبنغازي والبيضاء للوقوف في وجه النظام الذي استمر لما يزيد على الأربعين عاماً .
إنها دائرة عدوى التظاهر والثورات الجديدة التي بدأت تكتسح الجغرافيا العربية، في انفلونزا حادّة، لا يوجد لها مطعوم سوى مطعوم الانتصار، وتحقيق الذات الجمعية للجماهير، في ألفية جديدة لا تحتمل كل هذا القهر، وهذه المصادرة الفجة للحريات.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .