في الحدث
أكثر رومانسية من طائر الفينيق
تحديد اتجاه السير وسط ميدان التحرير، يوم تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، أصعب من دخول الجمل سم الخياط، فوسط الجموع الحاشدة والمتدفقة لا يملك أي شخص الا أن يمتزج بهذه الملايين ويكون قطرة في فيضان نهر الحرية.
التقيت اصدقاء لم أرهم منذ شهور، وزملاء لم اقابلهم منذ سنوات، الكل كان سعيداً باستعادة الشعب القدرة على الفعل بعد عقود من الإحباط وترديد عبارة منسوبة إلى الزعيم سعد زغلول: «مفيش فايدة». انضمام ملايين جديدة بعد اعلان قرار التنحي الى الموجودين بميدان التحرير لم يكن احتفالا برحيل حاكم أو تخلي رئيس عن رئاسة الجمهورية، لكنه كان فرحة بعودة الروح إلى شعب قال كثيرون إنه قد مات.
أما الشعب فقد أثبت بثورته وحركته أن أسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث حياً من رماده بعد احتراقه رافضاً الفناء، ليست أكثر رومانسية من ثورة واجه أبطالها طلقات الرصاص بكلمة «سلمية» فارتقى إلى ما فوق السحاب قرابة 400 شهيد في عمر الزهور ليمنحوا الوطن حياة وعمراً جديدين.
في ميدان التحرير، تذكرت لقاء تم بالمصادفة قبل شهور مع أحد «المدافعين عن النظام». كان «متخماً بالثقة»، ويقول من دون أن يخفض عينيه «الأوضاع في مصر ستستمر على ما هي عليه 50 عاماً على الأقل»، وبينما كان يعبر عن أمنيات وليست تحليلات، تجاهل عن عمد أو عدم معرفة أن الانترنت اختصرت الزمن بعد أن ألغت المسافات، وأن «الفيس بوك» قادر على «ضغط» السنين إلى أسابيع.
على بعد خطوات من ميدان التحرير، تجمع عشرات الآلاف في ميدان طلعت حرب، الذي أسس في مطلع القرن العشرين بنك مصر وعشرات الشركات المصرية لمواجهة سيطرة الأجانب على اقتصاد البلاد، وكأنهم يعتذرون لرائد الاقتصاد الوطني المستقل على ما فعلته حكومات الحزب الوطني المتعاقبة في بيع ثروات البلاد بأبخس الأثمان.
احتفالات المصريين تجلى فيها نبل الشعب، إذ تلاشت الهتافات المعادية لمبارك وأفراد أسرته بمجرد إعلان التنحي، واكتفى الجميع بالأغاني الوطنية، بينما كان ميدان التحرير طوال 18 يوماً «المقر الرئيس» لتدمير الرئيس وسلطته وأعوانه بالسخرية والنكات.
الاحتفالات لم تكن شماتة في من ظلم ولا رقصاً على «جثث المغادرين»، وإنما رسالة واضحة إلى القادمين إلى سدة الحكم بأن هذه الملايين لن تصبر على ظلم ولن تقبل بأقل مما تستحق من الحرية والعدالة والكرامة.
بعد أيام من احتفالات التنحي سألني زملاء يعملون بالخارج «ألم يكن ممكناً أن يبقى مبارك حتى نهاية فترة رئاسته؟»، قبل أن أجيب عادت بي الذاكرة إلى يوم التنحي ورأيت أربع مصريات يرتدين ملابس بسيطة سوداء.. تذرف العيون دموعاً مالحة على شهيدة لم تذهب سدى.. يدخلن وسط الملايين ويهتفن بصوت حزين «دم رحمة مش رخيص».