الوجه الآخر للطاغية
نحن نعرف الطاغية كشخصية نمطية. هذا ما اعتدناه وما استسلمنا إليه. فهو شخص قاتل ومستبد وظالم وبلا قلب. ولم نفكر يوماً في وجهه الآخر، الذي قد لا يظهر جلياً، ويحتاج إلى بعض التدقيق والرويّة والتأمل.
يُجمع الكثيرون على كون الطاغية شخصية مَرضية، أو غير سوية، وأنه يعاني اختلالات نفسية أو عقلية، هي التي تقوده وتسيره في كل حماقاته. وفي هذا الإجماع بعض الصواب، ولكنه معزول عن عوامل أخرى لتشكيل شخصية الطاغية. فليس ثمة طاغية بلا شعب، أي أن الشعب شرط الطاغية الأول. وهذا لا يعني أن ثمة شعوباً تحب الطغاة أو تفضّلهم على الآخرين، ولكنه يعني أن الشعب يلعب دوراً رئيساً في صناعة الطاغية، بصرف النظر عن النيات الحسنة! وكلما طال التقبل الظاهري أو الشكلي للطاغية، أمعن الأخير في طغيانه وجبروته، إلى أن يصبح في مرآة ذاته أكبر من الشعب والدولة والعالم كله ربما.
في هذه الحال، لا يفكر الطاغية في خسارة من أي نوع. ولذلك، فإنه حين تأتي ساعة المكاشفة، يصاب بالذعر.
يقول طبيب نفساني، إن مكاشفة الشخص العادي بمصيبة ما، تحتاج إلى أربع مراحل كي تستقر. فهو يرفض التصديق أولاً، ثم يغضب، ثم يكتئب، ثم يستكين.
لكن الطاغية ليس شخصاً عادياً، وعليه يكون الركون إلى المراحل الأربع أمراً فيه الكثير من المخاطرة. فهو قد يرفض التصديق، وقد يغضب، وهما عنصران أساسيان في شخصيته أصلاً. فهو لا يصدق إلا نفسه، ويغضب لأي فكرة تصدر عن سواه، إلا إذا كانت تداعب وتر الطغيان فيه.
لكن الطاغية في لحظة المكاشفة ـ وهذا هو الأمر المفاجئ ربما ـ يكشف عن شخصية هشة، لكن هذه الهشاشة تحتاج إلى بعض التأمل. فالطاغية يمتاز بالغضب الصامت. وهو في أحاديثه دائماً هادئ وبطيء، وهو في ذلك يعطي انطباعاً لمن حوله بأهمية ما يفكر فيه، وما سوف يقوله.
وفي لحظة المكاشفة، يختلف الأمر تماماً. فها هو يصرخ ويهدد، وهو أول تعبير عن الهشاشة. ثم يكرر كلماته مرات ومرات، لأنه ليس واثقاً مما قاله، وليس واثقاً من قدرة القول على التأثير كما كان من قبل. وهو يشعر بالخوف، لكنه يغلفه بالحديث عن الذات القوية وتاريخها. أي إنه يقدم شفاعة لنفسه أمام الكارثة. يذكّر الناس بما فعله وما قام به من أجلهم. إنه الخوف. فذكر مآثره اعتاده من الآخرين، ولكن السقوط في الوحدة، ومن ثم الخوف، هو الذي يستدعي تلك المآثر الوهمية.
تصبح شخصية الطاغية مرتبكة، ولكنها تحت قناع يشف هذه المرة عن بعض الملامح. وفي ثنايا خطابه في لحظات المكاشفة، تشعر باضطرابه، وعدم قدرته على التماسك الذي كان يحرص دائماً على الظهور فيه.
قبل لحظة المكاشفة، لا يفكر الطاغية في الآخرين كبشر لهم القدرة على القيام بما يمكنه القيام به. أما في لحظة المكاشفة / الصدمة، فإنه ينزلق قسراً نحو الآخرين، ويطالبهم بالكثير. بل إنه يناشد الأمهات والأخوات أن يخرجن إلى الشوارع علّهن يُفلحن في ما لم يُفلح هو.
إنها لحظة الانهيار، ولكل طاغية طريقته في تشكيلها!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.