الحكم بالمناكفة
بات في حكم المؤكد أن وجود بعض رموز النظام العربي لا يقوم إلا على تدوير المناكفة والتعايش معها، في ظل الوجود ضمن كتلة من التجاهل تعيش على وهم اسمه «مديونية المعنى» تنبعث من مرجعية مريضة ما انفكت ترسخ بيننا أن الزعيم هو الشعب والدولة والثروة، وأنه الجسم كله بدمه ولحمه، إلى أن تضخمت أخيراً، ووصل الأمر ببعض الزعماء إلى الاعتقاد أنهم زعماء أمميون، ويمكن أن يوافق أي جزء من العالم على قيادتهم الفذة.
ثمة منطقة عربية معتمة ومخصصة للاستعصاء الفردي، يستقيل فيها العقل وتطفح فيها الغائيات الخاصة، التي تمحو وجود الشعب كما تمحو مفهوم الخدمة العمومية والدولة بجناحيها: الأخلاق، والحرية، تجعلنا نقف مندهشين أمام عبارة أندريه مالر «الإنسان هو ما يُخفي». ثم نسأل عن ماهية البيان النفسي المختفي لبعض الزعماء، وكيف تتشكل ضمن دائرة «الميغالوماني» أو وسواس العظمة الذي يجمع المعنيون من علماء النفس على أنه عقلي المنشأ وعلامة أكيدة على مرض الفصام وتداعياته الخطيرة والمؤلمة.
منذ بداية القرن الماضي، ونحن نقف أمام مرحلة فصامية تتأرجح فيها أنماط السلوك الأخلاقي، ويحرم فيها التفكير من غير أن ندرك أن هذه المراحل المأهولة بالخداع قد حجبت وأن الوقت الحالي يستوجب قراءتها واستيعابها وتفكيكها بدءا من اللحظة التي يستبدل فيها الزعيم أناه الفردية بـ«نحن الشعب»، وينهمك في تقمص شخصية تمتد إلى ما هو أبعد من شخصه ومن اسمه ومن وجوده إلى الموجودات كلها مرورا بالمكارثية التي يبدعها، وانتهاء بما يتشدق به حول وجوده كضمانة لعدم الخراب الذي لن يطل إلا بعده.
غير أن شخصية الزعيم هذه لا تنتج كل هذه الهلوسات والفبركات وحدها بل إنها تعتمد على منطقتين، الأولى تخلو من الديمقراطية والمساواة والطمأنينة، والثانية بالمضمرات والمقموعات والقامات الضئيلة التي تسهم في فرض طاعته والإذعان لميوله وغاياته والتعاقد مع فساده ضمن خطوط حمراء وصفراء، تخرج العقل الإنساني عن ممكناته وتدحر أهداف العامة باعتبارها مجموعة من الموالاة لا يحق لها أن تسأل لماذا تهان؟ ولماذا تعيش ظروفا اقتصادية قاسية؟ ولماذا تستهدف وتسجن وتقتل إذا فكرت في الإصلاح؟
وبناء عليه من البديهي أن نمرض ويمرض الزعماء بنا ونحشر في زاوية عدمية نمتحن فيها الموت وإرادة القوة بدلا من الحوار والاستماع إلى صوت المستقبل والانتقال إلي منطقة رحبة وخالية من الفتك السلطوي الذي لا يؤمن بأنه في خدمة الشعب قدر إيمانه بخدمة نفسه.
وفي هذا الصدد المتعلق بالخدمة يقول دوريان «لكي تمارس تأثيراً على شخص ما، لابد وأن تمنحه شيئاً من روحك». وهنا لا بد من السؤال عن الروح التي منحها هؤلاء الرموز إلى شعوبهم؟ وأين هي؟ ولماذا كتب عليها الاختباء وراء متاريس مقفلة الآفاق لا تتلامس إلا مع قلة من المتورّطين والمستفيدين من لعنة الموالاة والكسب غير المشروع المحلل دائما بنزغ بعض الجهلة من المقربين والمدربين على تحويل المادة الفقهية إلى قوة دفع عكسي تتيح للحكومات التمتع برجم سؤال الإصلاح وإنتاج الذرائع المناوئة له، وبسط رزنامة مقدسة تعتمد على إلغاء الزمن كله لمصلحة الزمن الشخصي لهؤلاء الزعماء وتفردهم.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.