كتابة الاستبداد
نستذكر في هذه الأيام بعضا من ملامح الاستبداد في الأدب العربي المعاصر، إذ كل شيء حولنا يذكرنا بالاستبداد والتسلط والقهر.
استمعت، أخيراً، إلى بعض قصائد شاعر الفقراء أحمد فؤاد نجم، ونجم يبدو على شاشة التلفزيون بوجه محفور عليه تاريخ عذابات مصر، وأغنيات عمال التراحيل، والمصانع، والسجون. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن كل ما تعرض له نجم لا يساوي شيئا أمام حب مصر، ولا يفقده الثقة بالمستقبل، فهو الذي قال يوما لأمه مصر البهية: الزمن شاب وانت شبه.. هو رايح وانت جايه. وها هي تأتي.
وأحمد فؤاد نجم، أصبح في ثورة مصر علامة فارقة، إذ استعاده الوجدان الشعبي المصري في ميدان التحرير، وسطع نجماً في سماء الثورة، لم تبق أغنية صدح بها الشيخ إمام إلا وأنشدها شبان الثورة في ليالي التحرير، بل إن كثيرا من الشعارات التي رفعوها كانت أبياتا ومقاطع من قصائد الشاعر: الورد اللي فتح في جناين مصر.
ونستذكر في هذه الأيام التي يضرب فيها الشعب بالرصاص الحي، بعض روايات السجون العربية، فنكتشف أن ما كنا نعتقد لوهلة أن فيه شيئا من المبالغة، ما هو إلا اختزال للحقيقة التي أصبحت عارية.
كنا نظن في روايات مثل «شرق المتوسط» لعبدالرحمن منيف، و«السجن» لنبيل سليمان، و«الكرنك» لنجيب محفوظ، و«القوقعة» لمصطفى خليفة، وغيرها من الروايات، إضافة إلى بعض السير الذاتية والمذكرات، أن ثمة تضخيماً لـ«الأنا» من قبل الكتاب العرب، لأننا نعرف جيدا أنهم يعيدون كتابة تجاربهم، أو يعيشونها على الورق مرة أخرى. ولكن ما رأيناه من قتل على الهواء مباشرة بالرصاص، وما شاهدناه من اقتحام سيارات الأمن لمجموعات آدمية في الشوارع، يجعلنا نعيد النظر في ظنوننا السابقة، بل وربما يجعلنا ننتقد هؤلاء الكتاب على بعض اللين والنعومة في تلك اليوميات والممارسات، التي تشكل ملامح للنظام العربي الاستبدادي القائم.
كنا نعرف أن الإنسان العربي من دون قيمة في ظل أنظمة القمع والاستبداد العربية، وأن خنق حريته وإذلاله جزء رئيس من منظومة ثقافية قامت عليها هذه الأنظمة، لأنها تعرف جيدا أن قتل الكرامة الإنسانية، وإذلالها، سيؤديان إلى استسلام النفس البشرية. وعليه كانت رواية «السجن» العربية تصور هذا الإذلال الممنهج للنفس الإنسانية، وكانت الإهانات الشخصية التي يتلقاها السجين السياسي العربي يوميا، بمثابة رصاصات قاتلة ببطء، موجهة إلى الروح العربية، أكثر من توجهها إلى الجسد.
كان الخطأ الذي ارتكبته هذه الأنظمة، يكمن في ضيق الرؤية، وعدم التمعن في فهم حركة التاريخ، ودينامية الحراك الاجتماعي، التي لا تراها الثقافة الفوقية للأنظمة القمعية. فلا أحد يمكنه أن ينحي شعبا أو جماعة، ولا أحد يمكنه أن يذل شعبا أو جماعة، وهو مطمئن إلى هذا الخنوع الظاهري، إلا وكان عاجزا عن إدراك الجوهر الإنساني، وحركة التغيير التحتية في المجتمع، لذلك فوجئت هذه الأنظمة بالانفجار الهائل الذي تدفق في الشوارع، وفوجئت بمقدرة الناس على كسر حاجز الخوف، وظنت للوهلة الأولى أن الطرق التقليدية قادرة على احتواء ما حدث، وحين أدركت خطأها حاولت الاستجابة الشكلية، فأخطأت مرة أخرى.
لم نكتب عن الاستبداد العربي إلا قمة رأس جبل الجليد، وسنكون مطالبين بالغوص جيدا، ومواجهة الحقيقة الموضوعية المرعبة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.