أبواب
الديكتاتور الصغير
منذ أن اختفى الديكتاتور العربي الأول، الحجاج بن يوسف الثقفي، من على منبر المسجد البغدادي، حين قال «والله إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها»، وإرثه الديكتاتوري في المنطقة يلد الديكتاتور تلو الديكتاتور، كي تفرز شخوصاً بسيكولوجيات مركبة، يعانون تورم الذات، وانعكاسات هذا التورم الطاووسي على المجتمعات العربية.
وفي أيامنا المتسارعة هذه بدأت شخصية الديكتاتور تكشف عن عورتها، وذلك من خلال الثورات الشعبية المتلاحقة في تونس وفي القاهرة، وأخيراً وليس آخراً في ليبيا. فقد بدأ الديكتاتور في مساحة زعامته كأنه يؤسس لسلالة مقدسة، هي أكبر بكثير من رقاب العباد ومن مستوى انحناءاتهم، وهي بالطبع أكبر بكثير من أمكنة العواصم والساحات ومن إرثها الإنساني، وصار يُمكن للمتابع أن يرى بأم العين الأرقام الفلكية للأموال التي حصل عليها هذا الديكتاتور من عرق الشعب، ومن القصور الكافرة التكاليف القائمة في أرقى شوارع عواصم الدول الغربية، ومن حفلات البذخ والعلاقات مع رموز فنية عالمية.
نعم في أيامنا المتسارعة هذه صارت المسافة بين الوجه الرسمي والصارم الذي يقدمه الديكتاتور العربي لشعبه والوجه المواظب على الملذات والحفلات الماجنة قصيرة جداً، بعد أن كانت تلك المسافة سميكة ولا تحتمل الخرق في المشاهدة،
وقد أدى الكشف عن الملامح الديكتاتورية عربياً إلى جعل المواطن العربي يوسع مساحة مشاهدته لهذه الشخصية الاحتلالية، كي يرى البراعم الصغيرة لديكتاتوريات صغيرة ظلت تتغذى بنموها المؤذي من هيمنة الديكتاتور الأكبر.
وهنا نعود إلى شخصية أحمد عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، حيث نتأكد من شخصية الأب الديكتاتور، الذي يعيش انفصامه الخاص بين شخصية الأب المتسلطة والأب الباحث عن ملذاته مع النساء في شارع محمد علي، حيث الرقص وشرب الخمر.
إنها شخصية «سي السيد» ذات السمة الديكتاتورية الأبوية، التي لايزال يعانيها البيت العربي عموماً، والتي يسدد فواتيرها الأبناء والأمهات، على الرغم مما ندعيه من تحضر وعصرنة.
وهي شخصية الديكتاتور العربي الصغير، التي نجدها في الفصل المدرسي تتجسد في شخصية المعلم، مثلما نجدها أيضاً في شخصية مدير المصنع والشركة ورب العمل، والأمر يذهب إلى أبعد من ذلك في الأبوة الديكتاتورية التي يمارسها المثقف في دائرته المعرفية الضيقة، ويمارسها الكادر الحزبي الطازج في انتماءاته الثورية.
إننا عربياً نعيش في أخطبوطية الديكتاتوريات الصغيرة التي تتفشى كالفطر في مجتمعاتنا، وهي التي تجعلنا نصدق تلك الهيبة الزائفة للديكتاتور الصغير، وربما هذا ما يجعلنا بحاجة فعلاً إلى انقلابات اجتماعية تجتث مثل هذه الديكتاتوريات من جذورها.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .