علي الجابر.. شهيد الحقيقة
لأن الصورة تكشف وتقول ببلاغة ووضوح، ولا تكذب، لم يجد نظام القذافي، إلا أن يسدد الرصاص إلى «الصورة»، في محاولة يائسة لقتلها، ظاناً ومتوهماً أن تلك الرصاصة الغادرة كفيلة بحجب الحقيقة، وأنه بتلك الرصاصة سيحجب الدم الليبي الذي يريقه كل يوم، في مشهد يؤكد أن «العقيد» لا يرى في ليبيا سوى «مزرعة خاصة» له ولأبنائه الذين يتقاسمون «كتائب القتل». كما يؤكد المشهد الدموي أن «العقيد» عاقد العزم على إبادة شعبه الثائر، من أجل أن يبقى متربعاً على «عرش الدم والنفط والخراب»، متباهياً بنياشينه التي لم يعد يتسع لها صدر بدلته العسكرية. والمشهد ذاته، يؤكد أيضاً أن «العقيد» الذي لا يريد «التقاعد» عن القتل، يرى شعبه «عدواً شخصياً» له، وعليه أن «يمحو» كل شعبه من أجل أن يبقى «ملك ملوك إفريقيا».
وجاء اغتيال الشهيد علي حسن الجابر، مصور فريق قناة «الجزيرة»، شاهداً على جرائم «النظام القذافي»، الذي بلغ حافة اليأس، وهو يظن أن بإمكانه أن يدفن الحقيقة مع دفن جثمان الجابر، الشهيد الشاهد على بلاغة الدم، الذي رصد بعدسته بلاغة الصورة.
لم يكن فريق «الجزيرة» يعرف أثناء عودته من مهمة صحافية، أنها ستكون المهمة الأخيرة لزميلهم المصور علي الجابر، الشاهد الذي رصد أحداث الثورة الشعبية الليبية في مواقع عدة، وأصبح أول شهداء الصحافة في الثورة الليبية، ليلف جثمانه بعلم قطر وعلم الاستقلال الليبي الذي يرفعه الثوار.
الشاهد الجابر رأى ورصد الموت الذي تصبه «كتائب العقيد» على شعبه، كما رصد قوة إرادة الثوار وابتكارهم الأمل، حتى وهم يتلقون الرصاص الحي في صدورهم المدججة بحلم التغيير، وكانت الصورة حاضرة عبر عين الكاميرا التي بكت رفيقها الجابر حين سقط شهيداً.
صورة الحقيقة أزعجت «العقيد»، فقرر قتلها، متوهماً أنه يستطيع أن يفعل ذلك، وأن يمحو صورة الدم في الأرض الليبية وفي شاشات التلفزيون وفي الصحف ووكالات الأنباء، لكنه لا يعرف أن شهداء الحقيقة يزيدون الحقيقة وضوحاً، ويكشفون بموتهم عورة الطغاة، في كل الأزمنة والأمكنة. وما يجري في ليبيا من قصف بالطائرات والبوارج الحربية والدبابات ومضادات الطائرات لشعب يريد حريته كاملة، ويريد مستقبله كاملاً، ويريد وطنه كاملا لن يثني هذا الشعب العظيم عن أهدافه السامية، ولن يتردد هذا الشعب عن تقديم التضحيات الكبيرة في سبيل شمس كاملة وهواء كامل في وطن كامل، غير منقوص وغير منهوب من «زمرة دموية».
الصورة حية لا تموت، حتى لو سقط مزيد من شهداء الحقيقة، حتى لو زُج بطلاب الحقيقة في السجون. وما محاولة «العقيد» اغتيال الصورة إلا صورة عن هزيمته الداخلية ويأسه، خصوصاً بعدما تخلى عنه مقربون منه، علاوة على قادة في الجيش والحكومة، حتى ممرضته الأوكرانية لم تعد تحتمل الوجود في محيط «العقيد» الذي سيجد نفسه وحيداً، ذات يوم، ولن يجد من يكاتبه أو يكلمه أو حتى يهاتفه سوى عتمة الهزيمة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.