الزلازل والقلاقل
هذه هي الدنيا التي طبعت على نكد، ويعيش أهلها في نصب ولَغب، فلم نعد نسمع فيها ما يجبر الخاطر أو يسر الناظر، وقد مثلها الحريري في مقاماته بقوله:
يا خاطب الدنيا الدنِية إنها ... شَرَك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بُعدا لها من دار
وهو المعنى الذي أقسم الله تعالى عليه بثلاثة أقسام: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ}، فالإنسان يكابد أقدارها وأخطارها وأخبارها، وقلما يصفو له شيء منها، ولذلك سماها الله تعالى {متاع الغرور}، أي لا يتمتع بها إلا المغرور الذي لم يعرف حقيقتها وحالها، ونحن نرى ذلك صباحاً ومساء، فبينما نحن نعتصر ألماً على أحوال الأمة في عالمنا العربي لما حل بها من هرج ومرج وزلازل العروش، وحشد الجيوش، تأتي كارثة الزلازل اليابانية، فتزيدنا ضِغثاً على إبالة، كما يقول المثل السائر، أي بلية فوق أخرى، وهي أمور جعلت الكثير من الناس يتساءل: لعل الساعة قريب؟ وهو تساؤل وجيه، فإن الفتن والزلازل من أشراط الساعة الصغرى، وقد كان أهل الصدر الأول يتساءلون كذلك فيجيبهم القرآن بقوله: {قُلْ إِنمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبي لاَ يُجَليهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً}، فهذه الأشراط الصغرى لا تعني اقترابها كما يتصور الناس، وإلا فقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من دلائلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وجعله البخاري إحدى تراجمه وزاده استدلالاً بقوله تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير}.
إلا أن ذلك كله لا يعني استشعار قرب الساعة الكبرى، فلا ينبغي للناس أن يحملوا ما يرون على أمر الساعة، فإنها أدهى وأمر، بل يحملونها على طبيعة الدنيا، وأن هذا هو الأصل فيها، وهو نهجها في كل عصر ومصر، وما جاء على أصله لا يستغرب، بل يتعامل معه المرء على أمر الواقع من غير مغالبة ولا مكابرة، ويحاول أن يتكيف معه كجزء من حياته، ليعيش معه على مراد الله لا على مراد نفسه، فإنه لا معقب لحكمه ولا رادّ لأمره، بل لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولذلك كان الرضا بالقضاء أحد مكونات الإيمان، فإن رضي المرء فله الرضا، وإن سخط فعليه السخط، وهذا المكون أو الركن يريح النفس من هذه المرارات، ويعلم أن هذا كون الله وملكه، فيتصرف فيه كيف يشاء، وكما يشاء، وليس لنا فيه إلا المشي في مناكبها والابتغاء من فضله، وهذا ما كان يعبر عنه بعض العارفين بقوله:
إذا ما رأيتَ الله في الكون فاعلا .... رأيت جميع الكائنات ملاحا
فيسلم بذلك من الاعتراض على من له الملك، ويريح نفسه من هم الدنيا ونكدها، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئَه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فقد «رفعت الأقلام وجفت الصحف»، فإن لم يفعل، فإنه إنما يجني على نفسه، وليس بقادر على أن يبتغي نفقاً في الأرض ولا سُلماً في السماء، ولا يأتيه منها إلا ما قدر له منها.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .