ذاك المشهد!
كانوا أربعة رجال يفترشون العشب في مساحة لم يقضمها الإعمار الجنوني في العاصمة بعد، وكنت أسير في الشارع الموازي لتلك المساحة، وكان وجودهم في ذاك الضحى الصباحي يمنح جلستهم الدائرية عافية كرنفالية نادرة، وكانوا قد وضعوا إلى جانبهم أرغفة الخبز، وضمماً معقودة الأطراف من نبات الجرجير، وبعض الصحون المملوءة بالحمص والفول والزيت الطافح، بينما إبريق الشاي كان يدمدم بالبخار فوق نار أشعلوها للتو.
وكان عليّ أن أتوقف لأرى المشهد بشكل أفضل.
كانت قهقهاتهم التي يتبعها سعالهم التبغي، وقبضاتهم التي تلوح في الهواء وهي تقبض على اللقيمات، وسط هذا الاخضرار العشبي الربيعي، يمنح جلستهم أفقاً برياً ممتعاً، يجعل الشقاء الحياتي الذي يعيشونه قابلاً للتعايش معه رغم قسوته.
كانت معدات البناء التي تحيط بهم من جرافة وحفارة ذات مخالب معدنية شوكية، وأكياس من الإسمنت، وأسياخ حديدية ذات لون صدئ، كل هذا كان يؤشر إلى أن ورشة عمرانية كبيرة سيبدأ هؤلاء الرجال بالعمل عليها خلال الأيام المقبلة. وهذا ما تأكدت منه حين رأيت اللوحة المعدنية المغروسة عند فم تلك الساحة التي ترسم عمارة متعددة الأدوار، وشرفات ومحال تجارية واسم المالك والمتعهد والشركة الهندسية المشرفة على المشروع.
كانت قهقهات الرجال الأربعة وهجمتهم الطعامية تلك وسط اخضرار العشب الربيعي حولهم، وقرقعة كاسات الشاي، وذلك البخار الذي يطلقه الشاي، ممتزجاً مع دخان التبغ، كل هذا رسم أمام ناظري مشهداً يستحق أن يكون لوحة.
كانوا يشبهون البهجة تماماً وهم يغيبون في مشهدهم الصباحي هذا.
وكان عليّ أن أتصور نهوضهم الفجري من بيوت ذات أسقف واطئة، بيوت لها طعم تلك الرائحة التي تقتاد الفقر لتضعه تماماً في الروائح الثقيلة، وفي مركز حاسة الشم، التي يتنشقها هؤلاء عند كل نهوض صباحي، مثلما كان عليً أن أتصور المطالب الملّحة للصغار وللزوجة التي كانت تودعهم عند بوابة البيت، تاركة الدعاءات تحوم فوق رؤوسهم بنوع من الحماية الربانية، وهبوطهم من جبال ذات طرق نحيلة وزلقة، كي يتجمعوا بانتظار المتعهد الذي سيسوقهم إلى هذا المكان.
مرت لحظات وأنا أرقب المشهد، لكنهم نهضوا فجأة وبدا العشب الذي كان يفترشونه متقصفاً، ومن ثم توزعوا نحو الآلات الجبارة، وبدأوا العمل، وبدأ صرير عجلات الآلات يحذف المشهد تماماً.
وكان عليّ في تلك اللحظة أن أبتلع حزناً غامضاً، لعل أساسه هو موت هذا المشهد، ودخوله التدريجي في «الكونكريت» والإسمنت الذي يقتل دائماً مشهد العشب، والتفاف أربعة رجال على مائدة لها طعم الرزق الحلال!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .