أبواب
شاهد عيان
للمرة الأولى في تاريخ الإعلام العربي، يأخذ مصطلح «شاهد عيان» حيزاً واسعاً إلى هذا الحد، وهو ما يشكل ملمحاً من ملامح المأزق الإعلامي العربي في هذه الأيام، فمعلومات شاهد العيان، بالضرورة تنسجم وموقف هذا الشاهد الذي يتصل بالوسيلة الإعلامية، أو تتصل به الوسيلة الإعلامية نفسها، وكثيراً ما اكتشفنا بعد وقت، يطول أو يقصر، أن معلومات شاهد العيان هذا كانت مغلوطة أو غير دقيقة.
ولكن، لماذا تلجأ وسائل الإعلام العربية إلى شاهد عيان؟ ومن هو شاهد العيان الحقيقي هذا؟
لقد درجت العادة في وسائل الإعلام المحترمة، أن يكون هنالك مراسلون مختصون، ما يعني أن هنالك بالضرورة مراسلاً عسكرياً، يذهب إلى جبهة القتال والحرب، لكي ينقل الصورة الحقيقية لما يحدث، أما وسائل الإعلام العربية، وأخص الفضائيات هنا، فإنها تأتينا ببعض الضباط المتقاعدين، ليفردوا خرائطهم في استوديو البث، ويبدأوا في رسم الأسهم والدوائر بثقة بالغة، تجعلنا نستغرب كل تلك الهزائم العربية الرسمية في ظل وجود أمثال هؤلاء العباقرة العسكريين! لكن من الضروري أن ننوه إلى أن مواقف هذه الفضائيات، ليست نابعة فقط من عدم وجود مراسل عسكري، يلم بالتفاصيل، ويمتلك الجرأة، وإنما هي أيضاً طريقة لتشويه الحقائق على الأرض، وهي طريقة تبدو في ظاهرها سهلة التحقق، وتجعل الوسيلة الإعلامية في منأى عن المساءلة والانتقاد حين تنكشف الحقيقة.
فحين تتخذ وسيلة إعلامية موقفاً واضحاً مما يجري في مكان ما، فإنها تسخّر طاقاتها كلها لخدمة هذا الموقف، ولكي تعزز توجهاتها التي تتضح يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فإنها تلجأ إلى ما يسمى «شاهد عيان»، وشاهد العيان المجهول، يمكن أن تضع على لسانه ما تريد، وما يخدم توجهاتها الإعلامية، ولو صدّقنا شهود العيان الذين استمعنا إليهم في الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا مثلاً، لكانت لدينا الآن عشرات المجازر في المدن والقرى الليبية، ولكانت لدينا عشرات الآلاف من الجثث، طالما كانت «كتائب القذافي» ترتكب إبادات جماعية، وطائرات «الأطلسي» تقصف المدنيين. الغريب في الأمر، هو أن شاهد العيان الذي يقابله شاهد عيان آخر في وسيلة إعلامية ثانية، يركز في معلوماته على قصف المساجد والمستشفيات والمدارس والأحياء السكنية، وكأن القتال لا يجري إلا في الشوارع والأزقة والساحات العامة، بينما الصحراء الليبية تتحول إلى متنزهات مترامية الأطراف، ولا يوجد فيها شخص واحد يحمل بندقية أو مسدساً.
أما أطرف ما في شهادة شاهد العيان، فهو هذه التناقضات الغريبة والعجيبة، فحين تتقدم قوات «الثوار» يخرج شاهد عيان ليخبرنا بأن «كتائب القذافي» هربت تحت وطأة ضربات «الثوار» القوية والمحكمة، وحين تتراجع قوات «الثوار» يخبرنا شاهد العيان بأن التراجع كان بسبب قلة التسليح في يد «الثوار»، مقارنة بـ«كتائب القذافي» المدججة بالأسلحة الثقيلة، والحاصلة على تدريب عسكري محترف، ثم يأتي شاهد عيان آخر، ليخبرنا بأن «كتائب القذافي» مفككة، وأنه شاهد بأم عينه الجنود في المدرعات مقيدين بالسلاسل لئلا يفرّوا! هذه مجرد أمثلة على أداء الإعلام العربي، وهي تعكس ضعفاً وتخبطاً، إضافة إلى سذاجة في تسويق موقفها ورؤيتها، بمعنى أن هذه الوسائل الإعلامية تنطلق من استراتيجية رغائبية، بعيداً عن الموضوعية، ولعل هذا ما يتضح أكثر في البرامج الحوارية المتعلقة بالأحداث نفسها!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .