كتّاب الوهم
على الأغلب أن الكاتب الحقيقي، وقبل أن يعلن عن تعميده كاتباً، يكون في حالة قطف الثمار الروحية لرؤاه، مستدلاً على تلك البوصلة التي ظلت تؤجج روحه بالاختلاف، وارتياد مطارح قلما يصل إليها سواد الناس. وهو بهذا وقبل أن يبدأ بتحبير رؤاه واقتيادها نحو كتابة القصيدة أو القصة أو الرواية، يكون في حالة ثقة عمياء ويقينية وأكيدة من موهبته الابداعية والكتابية.
وأنا من الكتّاب الذين يعادون فكرة درج الكتابة، وأنا بالتحديد ضد فكرة البدء في الكتابة التسلليّة من بريد القراء، ومن ثم التدرج من النص الكتابي المطلسم، والضائع بين الخاطرة والقصة واللغة المشعرنة، حتى الوصول الى محطة التخصص الكتابي لاحقاً. أنا من الذين يؤمنون بأن الكاتب يظل يتبع بوصلته الروحية، ويتجسس على رؤاه المبكرة حتى يحين وقت كتابتها، وعند ذلك يكتب ليصير كاتباً مرّة واحدة.
لكن المشكلة في الكتابة الأدبية العربية عموماً لا تعتمد هذا النهج وهذا الاصطبار على تخمير الموهبة، بل ان الكثيرين يذهبون في الكتابة وفي الاعلان عن أنفسهم كتّاباً من أول نقطة حبر.
فأنا مازلت أذكر الناقد الذي استوقفني مطلع تسعينات القرن الفائت وأخبرني بأنه كتب تسع روايات، وحين عبرت له عن دهشتي من هذا الكم الذي لم أطلع عليه، عندها طلب مني التريث قليلاً ومن ثم غاب ليعود لي بعد دقائق وهو يحمل رواياته التسع، وأذكر أني بعد هذه الحادثة قمت بحشر نفسي في البيت، لقراءة هذه الأعمال، والغريب اني اكتشفت أنّ صاحبنا لا يميز بين الحكاية أو «الخرّافية» الشفاهية وبين الرواية.
وفي حادثة لاحقة تقدمت مني امرأة في «غاليري الفينيق» في عمان في مطلع تسعينات القرن الفائت، وعرّفت نفسها ليّ باعتبارها كاتبة قصة قصيرة وشاعرة وروائية أيضاً، وحين عبرت عن اندهاشي من كوني لا أعرفها لا سيما أنها امرأة أربعينية آنذاك، انفعلت وذهبت الى سيارتها الفارهة وأحضرت لي 10 كتب من تأليفها. وأذكر أني انتبذت مكاناً قصياً في الغاليري وبدأت أتصفح الكتب التي أهدتني إياها للتو، وكان المفجع بالنسبة لي كل هذا «التخبيص» الكتابي الذي لا يدلل على أي موهبة. وأذكر أني حينما خرجت من الغاليري، وركبت أول تاكسي، تعمدت نسيان كل كتبها في المقعد الخلفي للتاكسي.
سقت هذين المثالين كي أؤكد أن معظم كتابنا الذين تتورم بأسمائهم اتحادات وروابط الكتاب في وطننا العربي، ما هم إلا شلّة من الأفاقين، الذين دلقوا حبرهم في ساحاتنا الإبداعية من دون أن يتأكدوا من بوصلتهم الكتابية أو من رؤاهم، وهم بالفعل من استطاعوا انتحال الكتابة وتزويرها وفي بعض الأحيان تسيّد المشهد الكتابي العربي برمته!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .