أين العدو؟
منذ أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه في تونس، وما آلت إليه الأمور حتى اليوم على امتداد مساحة الوطن العربي، والمثقفون العرب يتخبطون في قراءاتهم لهذه الظاهرة الفريدة في التاريخ البشري. وبالنظر إلى هذه الفرادة، يمكن التماس العذر لبعض هؤلاء، فقد تلمسنا عفوية كبيرة ومفاجئة في هذا الحراك الشعبي العارم.
ولكننا أبداً لا يمكن أن نتوقف عند قراءة واحدة لما توالى بعد ذلك، فلسنا معزولين ثقافياً وسياسياً عن العالم الخارجي، ولسنا بمنأى عن مصالح هذا العالم، ومؤامراته أيضاً. أجل، ثمة مؤامرات تحاك دائماً، وليست آخرها منح فلسطين بمؤامرة دولية إلى عصابات مارقة.
المحزن في الأمر هو هذه الصحوة المتأخرة لمثقفين ومفكرين عرب، كانوا على صلة حميمة بهذه الأنظمة التي ينعتونها اليوم بالبوليسية والاستبدادية، والمحزن أكثر هو أن يتحول المثقف العربي ما بين عشية وضحاها من شاعر بلاط إلى مفكر ثوري متسلح بيقين يخجل منه لينين وريجيس دوبريه وتروتسكي!
والغريب في الأمر أيضاً هو أن هؤلاء المثقفين والمفكرين تحولوا فجأة إلى هموم المواطن العربي، وحقوقه في الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية، وأصبح الكيان الصهيوني مجرد خبر عابر، وليس عاجلاً كما ينبغي له أن يظل على الدوام.
ليس ثمة تعارض بين الحقوق الإنسانية والصراع ضد العدو الصهيوني، بل يمكن القول إن المجتمعات الحرة والديمقراطية الطبيعية قادرة على إنتاج نخب ثقافية وسياسية أكثر مقدرة على مجابهة العدو الخارجي.
ولكن السؤال هو: هل ستؤدي هذه الحركات إلى قيام مجتمعات حرة وديمقراطية طبيعية حقاً؟
علينا أن نضع أمام أعيننا حقيقة جوهرية، وهي أن كل هذا الحراك يأتي بعد اهتزاز الهوية القومية العربية، والإعلاء من شأن الهويات القُطرية والطائفية والعرقية والمذهبية في العالم العربي، وقد واكبنا نشوء تيارات ثقافية وسياسية ترفع شعار القُطرية أولاً، كما حدث في لبنان والأردن ومصر على سبيل المثال، وهي ثقافة تؤدي بالضرورة إلى حصر الصراع العربي الصهيوني بين العدو نفسه من جهة، وبين الفلسطينيين وحدهم من جهة ثانية، بل إن الانقسام الفلسطيني الذي حدث ما هو إلا نتيجة حتمية لهذه الثقافة التي تعيد إحياء الخطوط بين المذاهب والطوائف والأقطار.
هذا التمظهر الثقافي العربي ظل غائباً عن قراءات المثقفين العرب، وليس مفهوماً بعدُ، السبب الحقيقي وراء هذا الغياب، ولكن اللافت في الأمر هو أن المثقفين في الكيان الصهيوني ليسوا غائبين عن قراءة المشهد، وقد أخذت تتشكل تيارات ثقافية صهيونية، تبلور مشروعات ثقافية وسياسية مستقبلية، على ضوء هذه التحركات الشعبية العربية. وبمعنى آخر، فإن هؤلاء المثقفين في الجانب الآخر ربما يقرؤون الظاهرة من زاوية مغايرة تماماً للزوايا التي يطل منها المثقفون العرب.
نعم، نحن نشكك في كثير مما يجري لنا ومن حولنا، ومن حقنا أن نفعل ذلك، ونحن نسمع بعض الهتافات في الشوارع العربية تنادي بسقوط المقاومات في المنطقة، بوصفها أقنعة اختبأت خلفها الدولة البوليسية، وهي شعارات ليست عفوية على الإطلاق، ولكنها نتيجة ثقافة أخذت تعمل على هذا الهدف منذ عقد على الأقل، وليس إلحاح بعض القوى السياسية اللبنانية، ومثقفيها المعروفين، على نزع سلاح المقاومة، إلا تجسيداً لهذه اللاعفوية، ولن يكون آخرها مطالبة جزء من الليبيين بالتدخل الأطلسي لضرب ليبيين آخرين!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .