أبواب

كتابة المكان المقدس

خليل قنديل

ظلت الكتابة الإبداعية العربية والإنسانية عموماً تعيش حالة وجل كتابي خوفاً من مقارعة المكان المقدس البشري، ومحاولة الاشتباك مع تاريخه الإنساني المتراكم عبر التاريخ، وذلك على الرغم من الخصوبة التي تكتنف هذا المكان، وعلى الرغم من تراكم الإقامة البشرية حوله وفي كنفه.

فحاضرة الفاتيكان، على سبيل المثال لا الحصر، بمساحتها الضيقة نسبياً ظلت بمنأى عن الانخراط الإبداعي الغربي فيها، ولم تذهب الكتابات الإبداعية نحو الحفر في الاشتباك البشري المسيحي في تلك المساحة، وظلت حاضرة الفاتيكان لا تحضر الا حين تتم متابعة الدخان الأبيض الذي يحدد اختيار البابا الجديد!

وقد كان من المذهل والمدهش عربياً أن يكتشف المتابع لفعاليات اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية قبل سنتين، ان الروايات العربية التي كتبت عن القدس لا تتجاوز في عددها عدد اصابع اليد الواحدة، بينما كشفت الإحصاءات عن روايات عديدة تمت كتابتها من قبل كتّاب يهود حول القدس ومكانتها التاريخية.

وقد ظلت القدس مدينة كنعانية وعربية منذ الفتح الاسلامي، والوثيقة العمرية، القدس النابتة بقيمتها المقدسة منذ فجر التاريخ، والإلحاح السكاني المتواتر عبر قرون كثيرة، بعيدة كل البعد عن الحفر الكتابي في المجتمع المقدسي، ومحاولة تحبيره بالكتابة التي ترتقي الى هذا المستوى العريق في الإقامة والتنوع السكاني المتعاقب عبر التاريخ.

وقد ظلت مدينة مكة بعيدة هي الأخرى مدينةً لها طابعها المقدس عن كل كتابة ابداعية، على الرغم من الاكتناز التجاربي للمقيمين في هذه البقعة المقدسة والمباركة، وعلى الرغم من تواتر الهجرات من كل بقاع الأرض للإقامة في هذه المدينة، وعلى الرغم من التنوع المذهل للحجيج القادم اليها في كل عام من كل بقاع الأرض.

وتعتبر في هذا الإطار تجربة الكاتبة السعودية «رجاء عالم» في روايتها «طوق الحمام» الفائزة بجائزة البوكر للعام الحالي، تجربة ريادية بامتياز من حيث قدرتها على الاشتباك الابداعي المدهش مع أمكنة مكّة وحواريها والمقيمين فيها، والحي العشوائي الفقير الذي تنسج من خلاله المؤلفة روايتها. حيث تطوف بنا الكاتبة، من خلال جريمة قتل ومحقق، بكل ما يتعلق بمكة المكرمة والمقدسة كاشفة عن تاريخ المدينة وتاريخ الكعبة والحجيج وفقراء مكة الذين ينتظرون موسم الحج في كل عام.

ان فكرة الرعب عربياً من الاقتراب من المكان المقدس، وعدم الكتابة عنه ابداعيا، تشكل بالفعل حالة عرج كتابية استطاعت ان تجعلنا نخسر الكثير من الكتابات التي كان الممكن أن تمارس تأثيرها القرائي عالمياً.

وحالة الرعب هذه بحاجة بالفعل الى همّة نقدية عربية، همّة قادرة على الكشف عن اسباب هذا القصور، ومناقشة سيكولوجية معايشتنا المكان المقدس، وعدم قدرتنا على كتابته.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر