الفرق بين « شفيك » والمثقف العربي
عندما قالت صاحبة الحانة للعسكري الطيب « شفيك »، إنها سمعت في الإذاعة بمقتل « فردناند »، وكان ذلك في عام ،1914 أجاب « شفيك » بهدوء: أيهما؟ جامع روث الكلاب، أم الصبي مساعد الصيدلي؟
كان كل من هؤلاء الثلاثة ـ ولي عهد النمسا وجامع روث الكلاب وصبي الصيدلية ـ يحملون اسماً واحداً. ولكن« شفيك » البسيط والمقهور والبائس، لا يعرف إلا اثنين، ولا يعرف ولي عهد النمسا الذي قتل في سراييفو، ولكن هذا لم يمنعه من أن يصدق أن الإذاعة الوطنية أوردت نبأ مقتل جامع روث الكلاب!
يمثل « شفيك » في هذا المشهد الروائي، الجوهر النقي للإنسان العادي، الذي لا يعترف بسطوة المنظومة الثقافية السائدة، القائمة على الاستبداد والقهر والتهميش والإقصاء. ولذلك لم يجد أي صعوبة في تصديق إذاعة نبأ مقتل إنسان عادي وبسيط مثله في الإذاعة الرسمية.
وحين تنشب الحرب العالمية الأولى إثر مصرع فردناند، وتتحشد الجيوش على حدود الدول، لا يجد « شفيك » سبباً يمنعه من التطوع للقتال في سبيل الوطن، على الرغم من عاهة في قدمه. لم يسأل العسكري الطيب شفيك عن أسباب الحرب، ولم يفكر في موته المحتمل كحالة مجانية في الصراعات الكبرى، بل إنه حين يتم أسره ـ خطأً ـ بوصفه جندياً روسياً على الحدود، يعترف بأنه كان يؤدي واجبه الوطني هناك، من دون أن يرف له جفن أمام عقوبة الإعدام التي تنتظره.
في « براغ » وقفت يوماً في بقعة جانبية، أخبرني المرافق أنها المكان الذي وجدوا فيه الكاتب « ياروسلاف هاشيك » ميتاً، وقد بال على نفسه!
كان هذا هو الكاتب العبقري الذي كتب تلك الرواية الرائعة، وكان يقرأ في دفاتر الناس البسطاء والمقهورين، من دون أن يركض وراء فتات مادي هنا أو هناك.
كان « هاشيك » يدرك جيداً أن مقتل ولي عهد النمسا في سراييفو، ليس سبباً كافياً لإشعال حرب كونية يهلك فيها الملايين من البشر الأبرياء. ولم يدرك الكثير من الكتاب والمثقفين العرب بعدُ، أن وجود بعض الرموز الاستبدادية العربية في الحكم، ليس إلا ملمحاً من ملامح منظومة ثقافية قائمة، تستند إلى رؤية استبدادية وتهميشية وإقصائية. إن الذهنية العرفية والقمعية، ما هي إلا نسق ثقافي متجذر في البنية الاجتماعية، وتغيير الأفراد لا يعني استئصال الذهنية العرفية من جذورها، حتى لو كان الأفراد الجدد صادقين ومخلصين.
على المثقفين العرب أن يفككوا هذه المنظومة الثقافية الراسخة، والتي تمتد لتشمل مفردات الحياة كلها، لا نظام الحكم وحده. فلا يعقل أن تأتي بأفضل قانون انتخاب في الكون، بينما البنية الاجتماعية قائمة على صراعات قبلية أو طائفية أو مذهبية. ولا يعقل أن تتغنى بالحداثة، بينما يدرك الناس أنهم ليسوا متساوين في الحقوق. وأن الحرية لا تليق بهم، بوصفهم مواطنين من الدرجة العاشرة.
لم يحدث أن شكّل المثقفون العرب جبهة ثقافية ضد الاستبداد والظلم، بل يمكن القول إنهم كانوا على الدوام، متصالحين مع البنية القائمة. وكان كل ما يقومون به مجرد تغنٍ ببعض الشعارات الاستعراضية. إنهم في بساطة نتاج هذه المنظومة الثقافية البائسة، التي بزوالها سيولّون الدبر.
الفرق بين شفيك والمثقف العربي، هو أن « شفيك » نتاج منظومة ثقافية حديثة، بينما المثقف العربي نتاج عقود أو يزيد من القبلية.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .