5 دقائق
لا تختلف البشرية على أن الصدق من أمهات الفضائل الخُلقية وأكرم الخِلال الإنسانية، لما له من أثر في حفظ حقوق الناس، واستقامة التعامل بينهم، وقد جاء الإسلام فجعله إحدى ركائزه العظام، فأمر الناس كلهم أن يجعلوه شعارهم ودثارهم، وقال لهم:{يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} والمعنى: أن الصادقين هم في محل الرضا عند الله تعالى، لذلك جُعلت التقوى تابعة له، وهذا ما يشير إليه حديث الشيخين عن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً...».
وقد بانت منزلتهم عند الله تعالى حين ساق ذكرهم مع النبيين والشهداء والصالحين، فما على المسلم لو أنه سعى إلى هذه المنزلة بكل طاقته ووسعه؟! إذاً لأفلح كل الفلاح، ولا يفرط فيها عاقل مهما كانت حاله، ولو ظن أن في الصدق الهلاك، فإنه منجاة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لأن يضعني الصدق - وقلما يفعل - أحب إلي من أن يرفعني الكذب - وقلما يفعل».
وقال بعض الحكماء: «الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته». وقال محمود الوراق: «الصدق منجاةٌ لأربابه.. وقربة تدني من الرب».
ويقول الجاحظ: «الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فيهن تمام كل دين، وصلاح كل دنيا، وأضدادهن سبب كل فرقة، وأصل كل فساد».
هذا هو حال الصدق الذي ينشده الناس، ويتعين أن يكون أصلاً من أصول الإيمان، لأن الكذب ينافيه، فقد سئل صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: « نعم »، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: « نعم »، فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً ؟ فقال: « لا ».
لذلك يعده علماء السلوك أنه عمود الدين، وركن الأدب، وأصل المروءة، فلا تتم هذه الثلاثة إلا به، فكيف حال كثير من الناس اليوم في تعاملاتهم، ووعودهم، وبيعهم وشرائهم وقولهم وفعلهم، وهم يدعون الإيمان؟
إن المتعامل اليوم يرى العجب العجاب، إذْ لا يكاد يجد الصدق مع أن كل أحد يدعيه، فإذا خبره قَلاه، وقد ورد في الصحيح «تجدون الناس كإبلٍ مائة، لا تجد فيها راحلة».
أين ذهب الصدق في القول والتعامل؟ ما الذي يجعل الصانع والبائع والموظف لا يصدقون؟ أهو ابتغاء الكثير من الرزق من حلال كان أم من حرام؟ أم هو عدم المبالاة في عواقب فقده الوخيمة في الدنيا والآخرة؟
وأياً ما كان فإن كلا الأمرين خطير، وشر مستطير، إذْ بفقده تفقد الثقة بين الناس، فيكون الكل في شك مريب وتوجس مخيف، ويضحى المرء في غربة وهو في وسط قومه، فلابد للناس من الرشاد والسداد في القول والفعل، لأن لسان الصدق هو لحياة الباقية، بل هو الحياة الحقيقية للمرء، فلا سيف كالحق، ولا عون كالصدق. وقد قالوا: ليكن مرجعك إلى الحق ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى معين، والصدق أفضل قرين، وصدق اللسان أول السعادة، وقيل أيضاً: «من قل صدقه قل صديقه»، وقالوا: «عليك بالصدق ولو أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيد». جعلنا الله من الذين ينفعهم الصدق في الدنيا والآخرة.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .