لعبة الدومينو
هذا عنوان فيلم أميركي قديم نسبياً. ولست هنا لأقدم نقداً أو قراءة في الفيلم، إذ لا أمتلك من المؤهلات لذلك، بعض ما يمتلكه زميلنا المخرج المعروف قيس الزبيدي، لكنني تذكرت هذا الفيلم في خضم« الثورات » العربية القائمة على قدم وساق!
يتناول الفيلم صراع عصابات « المافيا » في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تقرر إحدى هذه الجماعات اغتيال زعيم جماعة أخرى. تأتي بمقاتل قديم من حرب فيتنام ـ كما أتذكر ـ يعمل غبّ الطلب بعد تقاعده مقابل المال. يصحبونه بطائرة عمودية، ليبدأ في التدرب على قنص الأهداف من الجو، وفي هذه الأثناء، وحين يصل إلى مرحلة اللا خطأ، بحيث يتمكن من إصابة علبة مشروب غازية صغيرة من الجو، تصيبه صحوة إنسانية، إذ « لا ناقة له ولا جمل » في مقتل رجل يبدو له مسالماً ومعتزلاً، فيقرر عدم القيام بالمهمة. لكنه يعرف أن ذلك سيكلفه حياته، فالجماعة التي استخدمته لن تسمح أو تتهاون في كشف نفسها، حين يصبح القاتل المأجور طليقاً، قابلاً للحديث ونقل التفاصيل.
وفي اليوم المحدد، يصعد الرجل بصحبة مستخدميه إلى الطائرة، وينتظر ظهور الرجل ( الهدف )، الذي يظهر بعد فترة وجيزة. وهنا كان عليه أن يصوب بندقيته ويطلق النار بدقة، وقد فعل، لكنه فعل الجزء الأول فقط. لقد صوب سلاحه وأطلق النار، لكنه تعمد أن يخطئ الهدف، لكن المفاجأة كانت أنه تلقى التهنئة على دقة التصويب، لأن الرجل ( الهدف ) مات، ولأن عمله كان متقناً إلى حد مدهش. هنا يضطر القناص إلى الاعتراف بأنه تعمد إخطاء الهدف، لكن مستخدميه يصرون على أنه كان ماهراً جداً، ودقيقاً جداً، وأن رصاصته أصابت الرجل مباشرة فمات.
يخبرنا الفيلم بعد ذلك، أن ثمة رجالاً آخرين، كانوا يختبئون بين الأشجار على الأرض، في اللحظة التي أطلق القناص رصاصته، وأنهم هم الذين أصابوا الرجل وقتلوه، من دون أن يدرك القناص ذلك.
هذا مجرد فيلم سينمائي، لكنه يكشف عن نسق التفكير في الذهنية الأميركية. وعليه، فإن نظرية اغتيال السادات المقترحة لاحقاً، والتي تفيد بأنه قتل برصاصة من الخلف أثناء تقدم الإسلامبولي ورفاقه إلى المنصة، تبدو مبررة ومقبولة، حتى وإن لم تكن حقيقية. فالحقيقة في هذه الحال، تصبح اقتراحاً أو احتمالاً من بين اقتراحات واحتمالات عدة.
خلاصة الفيلم، هي أن الذهنية الأميركية، قائمة على سلسلة طويلة من الأفكار، التي قد تعرف بعضها، لكنك حتماً تجهل بعضها الآخر.
ثمة إيهام مقصود هنا، وهو إيهام يبدو في ظاهره حقيقة موضوعية، لكنه في جوهره مختلف تماماً. ولعل تجاربنا مع العقل الأميركي تؤكد لنا هذه الظاهرة. والإيهام عنصر تحفيز كبير في بعض مراحل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى.
ليست ثمة مقارنة هنا بين الجماهير والقناص، كما قد يذهب الظن بالبعض، أقصد في الدوافع والأهداف. لكن المقارنة قائمة على الجانب الآخر، الخفي، والغامض، والسرّي. وهو الجانب الذي لا نراه في العادة، ولا نريد أن نراه في بعض الأحيان، حتى لو كانت رؤيته متاحة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .