الأمن والإيمان

ضرب الله تعالى في مُحكم كتابه مثلاً عظيماً طالما قرأه الناس ولم يتدبروه حق تدبره، ويجدر بكل مسلم أن يعطيه حقه من التدبر، ليعرف نعمة الله تعالى عليه؛ إنه قوله تعالى: { وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُل مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } فإن هذه الآية تكاد تحكي حال الأمة اليوم، فإنها تعيش هرجاً ومرجاً بسبب فقد الأمن، فتبدل الأمنُ خوفاً، والعدل جوراً، والاقتصاد تدهوراً، والعيش بؤساً..

والقرآن الكريم يضرب الأمثال للناس؛ لتكون عبرة للآخرين، وعظة للعاقلين؛ فإن مضربَ المثل بمثابة سنة كونية توجد عند وجود مثل مورِده. فهؤلاء الذين ضرب الله تعالى بهم المثل، كانوا قد بطروا معيشتهم، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فحاق بهم ما يليق ببطَر النعمة، وذكر الله تعالى نقيض الأمن وهو الخوف؛ لتُعلم النعمة التي قد تكون مجهولة فلا تدرك إلا بفقدها، كما قالوا: والضد يظهر حسنه الضد. وقالوا: من عمه الأمن فهو كمن استولت عليه العافية، فلا يعرف قدر النعمة بأمنه حتى يخاف، كما لا يعرف المعافَى قدر النعمة حتى يصاب. وقال بعض الحكماء: إنما يُعرف قدر النعمة بمقاساة ضدها. وكم امتن الله تعالى بالأمن على الناس عامة، وعلى المسلمين خصوصاً، في آيات كثيرة ومناسبات عديدة مع الأمم والجماعات؛ لأن الأمن سبب لكل فضيلة، وجاذب لكل سعادة، وطارد لكل شقاء، وقد جعله النبي، صلى الله عليه وسلم، أحد الأسس التي تُشعر المرء أنه قد ملك الدنيا بحذافيرها، كما روى الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: « من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا ». لا جرم، فإن الدنيا لا قيمة لها إذا تكدرت بالخوف على النفس أو المال أو العيال، فإنها عندئذ غير مرغوب فيها، ويود المرء بطن الأرض.

وقد جعل الله تعالى الأمن إحدى ركائز الاستخلاف في الأرض؛ للإيمان به وعبادته كما قال جل شانه: {  وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكنَن لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدلَنهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون } فإن الاستخلاف لا يتحقق بغيره؛ لأن الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش فمن لم يؤمنه العدل، لا يُمتعه الجور.

وفي الواقع المعاش ما يجعلنا نستشعر نعمة الله تعالى بالأمن الضارب أطنابه في هذا البلد الطيب الذي يُخرج نباته بإذن ربه ثماراً يانعة من الرخاء والاستقرار، ويتعين أن يكون هدف كل ساكن على رُباه الطاهر، من مواطن ومقيم وزائر، فما كان لهذا التطور الحضاري، والتقدم المعماري، والشعائر الظاهرة، والاستقرار النفسي.. ما كان ليتم لولا هذا الأمن الذي أرسته العدالة، وغذاه التسامح، وأكده الشعور بالمسؤولية من الراعي والرعية، وسهرت عليه النفوس الأبية، والرجال أولو الهمم العلية، فلا عوض لهذه النعمة التي هي بُغية كل إنسان، ومنتهى أمل كل حي، وقد ورد أن « من أعطي فشكر، وابتلي فصبر، وظَلم فاستغفر، وظُلِم فغفر {  أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }.

نسأل الله تعالى أن يديم نعمة الأمن في الدنيا والآخرة.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي .

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة