أبواب
إعلام الربابة والحكواتي
كان شاعر الربابة العربي في الجاهلية، والحكواتي العربي الذي تلاه، يسهبان في التشويق والإثارة، إلى الحد الذي جعل كلاً منهما لا يتورع عن قتل 50 ألفاً بسيف الزير سالم في اليوم الواحد، و100 ألف بسيف عنترة العبسي. وكان الناس يستمعون بلهفة إلى هذه الأخبار، بوصفها حقائق لا تقبل المساءلة أو التدقيق.
كل ذلك كانت تلزمه مقدمات ضرورية، تشكل صورة الزير وعنترة أولاً، بوصفهما بطلين ملحميين غير قابلين للمواجهة، وبهذه المقدمات يتم استلاب المتلقي، وسحبه تدريجياً إلى منطقة عقلية محايدة، بحيث يصبح مستقبِلاً ـ بكسر الباء ـ مطواعاً تماماً.
ولم يكن غريباً أن تتكرر حكاية الشاعر والحكواتي، مع أحمد سعيد مثلاً في عام الهزيمة ـ النكسة ـ الذي كان يُسقط في كل بيان عسكري عشرات الطائرات الصهيونية، والجماهير العربية كلها ترقص على إيقاع صوته.
واليوم، ورغم عبورنا زمن العولمة، وعصر التقانة والمعلوماتية، إلا أننا لا نزال أؤلئك الناس المأخوذين بالصوت والصورة، الذين يجري نقلهم في عناية فائقة إلى مسرح الاستقبال المعتم.
فبينما قامت الحضارة الغربية على الشك، نجد مجتمعاتنا قامت على اليقين الراسخ، وهو الأمر الذي جعلنا نتقبل فكرة الحاكم بأمره، وولي الأمر، من دون أي سؤال، وهكذا لم يعد غريباً أن تلعب الصورة الحديثة، والحكواتي الحديث عبر الفضائيات والإذاعات، الدور نفسه الذي كان يلعبه شاعر الربابة والحكواتي من قبل، فقط تغيرت الآلة، بينما ظل الصوت العربي قادراً على نقل أخبار تشبه في جوهرها أخبار الزير سالم وعنترة العبسي، حيث القصف المدفعي والصاروخي والطائرات على منازل الناس الآمنين، وحيث المعارك الوهمية بين فرق الجيش المنقسمة، وما إلى ذلك من أخبار مشوقة بحق.
ربما كان الزير سالم شخصية حقيقية، ولكن ما نسب إليه قطعاً لم يكن كذلك. وربما كان عنترة العبسي شخصية حقيقية، لكن ما نسب إليه يداخله الشك من أمامه ومن خلفه ومن بين يديه، وكذلك الحال مع الواقع العربي اليوم، فهو حقيقي، ولكن هذا الإعلام « الحكواتي » يطاوله الشك من جوانبه كلها.
ليست الآلة مهمة في حد ذاتها، فقد تتمكن من استخدام آخر منتجات وسائل الاتصال الرقمية، ولكنك ربما لا تستطيع أن تحيد عن نسق ثقافي وفكري ماضوي شامل، بمعنى أنك لن تكون حداثياً بالمعنى الجوهري، ما لم تقم بقطيعة معرفية مع النسق التقليدي، الذي يحمل في طياته قيم العشائرية والتبعية والدونية واليقينية والغيبية، هذا يعني أننا لم ندخل عصر الآلة والتقانة والمعلوماتية إلا شكلاً فقط، لأن من شروط هذا العصر، أن يكون الإنسان قادراً على التمييز والمساءلة، وهي نفسها شروط البنية الاجتماعية الحديثة. فالديمقراطية التي تعني حكم الشعب، تعني أيضاً مساءلة ممثلي هذا الشعب. ولأننا لم نرسخ تقاليد ديمقراطية عبر تاريخنا الطويل، فإننا مستعدون للوقوع فريسة إعلام جديد شكلياً وتقنياً، لكنه في جوهره ينتمي إلى إعلام الربابة والحكواتي. والمطروح علينا هذه الأيام، هو أن نستسلم لإعلام شاعر الربابة والحكواتي، لأن المطلوب ليس بناء مجتمع حديث قائم على المساءلة والعدالة واحترام حقوق الإنسان، وإنما هو مجتمع تكمن مرجعيته في الماضي لا في المستقبل، وفي التجهيل لا في التحديث.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .