المخدرات والعقول

ليس هناك شيء يتميز به الإنسان عن الحيوان في خلقته أفضل من العقل- بعد نعمة الإسلام - فالإنسان يشترك مع غيره من الخليقة الحية في الحيوانية، ولكنه يتميز عنها بالعقل الذي هو مِنةُ الله عليه، وبه كان مكرماً عند ربه سبحانه، فكان يخاطبه بهذا الوصف إشادة عند وجوده، وذماً عند تعطيل الانتفاع به، وذلك في نحو 20 آية، مثل قوله سبحانه: {إِن فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون}، أو قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، وأضعاف ذلك بمرادفه كاللب والحِجا والحجر.

فلكونه عاقلاً جُعل حاملاً للأمانة العظيمة، مكلفاً بالأوامر والنواهي التي أتت بها الشرائع السماوية، ليتحقق بها شرف العبودية لله رب العالمين، فهو مناط التكليف، ولذلك حاطه بوجوب الحفاظ عليه من الضياع، وحرم انتهاكه بأي وسيلة ولو كان ظاهرها الانتفاع، لئلا يفتقد خصوصيته المثلى، وعده من الكليات الخمس التي حافظت عليها جميع الشرائع السماوية، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وجعل لكل كلية حداً يحميها من الانتهاك، لتبقى صالحة نافعة.

والغريب في الأمر: أن الحدود التي شرعت لحماية الكليات الأخرى، كانت لئلا يتعدى الغير عليها، أمّا حد حماية العقل فكان لحمايته من الشخص نفسه، لأنه أمانة عنده، ولا يستطيع غيره التسلط عليه تعدياً وإزالة، بل غيره حريص عليه، فهو يحتاج إلى عقله، ليخاطبه ويتعامل معه، فإذا لم يكن عاقلاً أُسقط من عداد المخاطبين المعنيين بالتعامل معهم، وعُد من جملة الدواب التي تعيش لغيرها لا لنفسها.

والمرء يعرف هذه الحقيقة من نفسه، ومع ذلك تجده يسعى إلى إفساد عقله بكل إرادة ساذجة، ليكون محل السخرية من غيره، فكيف يودى الإنسان بنفسه إلى هذا الحضيض من ذِروة عزة العقل الذي يسخر الكون لمصلحته، إلى درجة الذل والهوان، فيسخر منه جميع بني الإنسان، ويعيش تحت القضبان؟! ولو كان للحيوان تمييز لكان أول الساخرين، لأنه أهدى سبيلاً منه.

ذلك ما يكون ممن يبيع عقله بحبة هلوسة، ويضيعه بحفنة مخدرات، فما أجهل هذا الشخص الذي أسقط إنسانيته، وعاد ليشتري البهيمية، وقد كرمه الله بالآدمية الإنسانية، فما أجدره بقول الشاعر:

قل لمن يشتري الحشيشة جهلاً يا غبيا قد عشت شر معيشة

دية العـقـل بَـدْرةٌ فلمـاذا  يا جهولا قد بعته بحشيشة

يريد: أن العقل فيه دية كاملة إن حصلت عليه جناية، فكيف يبيعه مالكه بحشيشة، كيف يتم هذا في مبدأ الربح والخسارة المادية؟!

لكني أقول: إن العقل لا يُقدر بثمن، فديته الكاملة إنما هي جبر لبعض المصاب به حينما يحصل عليه التعدي، فهي تعويض بسيط لئلا تتعاظم عليه المصائب، أما من يضيعه اختياراً، فإنه قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك الخسران المبين.

ونستطيع القول: إن الإنسان الذي يتعاطى هذه المخدرات الفتاكة، يحتاج إلى مصحة تربي فيه ملكة العقل شيئاً فشيئاً حتى يعود بشراً سوياً، فإنه إن عاد إليه عقله سيحارب هذه الآفات بنفسه، وعقله سيحميه من الانزلاق نحو هذه الآفات المهلكات، لأنها تتنافى مع الفطرة، ولا يرضى إنسان لنفسه الهوان، فالعاقل يتحكم في غرائزه وشهواته، ولذلك سُمي عاقلاً، فهو مأخوذ من عقل الشيء أي منعه، سُمي بذلك لأنه يمنع صاحبه من الانحراف نحو الرذائل، كما يكون من عقال البعير، إن أريد منعه من الشيء.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي .

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة