أبواب
«دم عن دم يفرق»
طوبى للحالمين بربيع عربي أخضر، وطوبى لمن يرفع الصوت عالياً يدعو إلى حرية الناس وكراماتهم وحقوقهم المغتصبة، من قبل أنظمة استبدادية، أو من قبل عدو خارجي. وطوبى لهؤلاء المثقفين الذين ما بدّلوا تبديلا منذ أول طلقة وأول حجر وأول قطرة دم وأول قيد وأول سجن وأول مهانة في العالم العربي. ولكن مهلاً..
هل طلقة عن طلقة تفرق؟ ودم عن دم يفرق؟ ومهانة عن مهانة تفرق؟
إذا كان ذلك كذلك، فما المعايير؟ عدد القتلى مثلاً؟ عدد السجون؟ عدد القوات المتربصة بالناس في الشوارع والمنازل و«الزنقات»؟ الطائفة أو المذهب أو العرق أو المنبت والأصل؟
ليس ثمة ثورية انتقائية على هذه الأرض، فإما أن تكون ثورياً هنا وهناك، وإما ألا تركب حصان الثورة الذي تبدو صهوته واطئة ومريحة هذه الأيام.
ليس هنالك من اعتراض على هجاء القمع والنظم الاستبدادية، ولكن الاعتراض قائم على انتقائية الفعل.
لقد بدت مواقف بعض الأنظمة العربية، كأنها طوق النجاة لبعض المثقفين، الذين ما اعتادوا مخالفة أنظمتهم الحاكمة، وما جرأوا على ذلك، ولن يجرؤوا. وأعني المثقفين المنتفعين من هذه الأنظمة، التي تعرف كيف تفرق بين مثقف وآخر، وعلى أي أساس. وتعرف كيف تقف مع هذا المثقف وضد ذلك.
كل ما أقوله فقط، هو أن البوصلة عند كثيرين قابلة للتوجيه والتلاعب بالإيحاء والتلميح والتصريح. وهي ليست بوصلة عفوية على الإطلاق، لأن البوصلة العفوية تعرف الشمال والجنوب من دون عامل خارجي.
تعرف الثورة جيداً، أن أبناءها ليسوا مصنعين ونفعيين، وأنهم هم الذين ما سألوا يوماً عن مصائرهم ومصائر عائلاتهم حين تهب الزوبعة، على عكس الأبناء المزيفين، الذين استغلوا بوصلة السلطة القائدة والموجهة، ليقوموا بعملية غسيل تاريخ طويل من التبعية والجهوية والإقليمية والطائفية والمذهبية.
لا، لستم أحرص من سواكم على أي دم عربي يراق هنا أو هناك، ولستم أولئك الذين أمضوا أعمارهم رافعين رايات الحرية والكرامة والعدالة. ولكنكم بالمصادفة استيقظتم فوجدتم المسرح مهيأ تماماً، فأصبحتم أبطال الحرية. ولكنها بطولة ندرك أنها وهمية، لأن الأسياد هم الذين رسموها وكتبوها وصنّعوها، ولم تكونوا سوى أسماء تسميتموها، والأسياد أيها «الثورجيون» الجدد، هم من تعرفونهم إياهم، الذين لهم تاريخ ناصع في انتهاك الحريات والحقوق وإذلال البشر. وهؤلاء ليسوا حكراً على النظام السوري كما تسوقون وتصرخون. وليسوا حكراً على كتائب القذافي كما تدّعون. فهنالك كتائب متعددة الجنسيات تسرح وتمرح في الشوارع العربية من الماء إلى الماء، ولا تريدون أن تروها، لأنه من غير المسموح لكم أن تروها. وأنتم لا تتعاملون مع مفردات الحياة إلا بالمسموح والمتاح والممكن، وبما سميتموه ذات يوم بالواقعي! هل تذكرون ذلك جيداً؟ إذا كنتم نسيتم فنحن كفيلون بإنعاش ذاكراتكم.. ربما كان الكثيرون منكم صغاراً، وربما لم يكن بعضكم موجوداً على هذه الأرض، ولكن الوقائع الدموية أكثر من أن تحصى، وأصعب من أن تُسرد الآن.
أجل، طوبى للحالمين بربيع عربي أخضر، ولكن، كنا سنقول: طوبى كبيرة جداً لمن لا يفرقون بين دم ودم.. بين مهانة ومهانة.. بين رصاص ورصاص.. بين تهميش وتهميش.. بين استبداد واستبداد مثيل!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .