من فوائد السفر
السير في الأرض مقصد معتبر؛ ليحصل به الاعتبار بما لِله في الكون من سنن، وما له في خلقه من شؤون، يعتبر بها العاقلون، ويتدبرها المبصرون، وكم في القرآن الكريم من آيات تأمر أمر إباحة بالسير في الأرض؛ لينال السائر ما لا يناله الماكث، كقوله سبحانه: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُم اللهُ يُنْشِئُ النشْأَةَ الْآخِرَةَ إِن اللهَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ذلك أن السائر يرى ما لم يكن قد رأى، ويسمع ما لم يكن قد سمع، وما سمعه في الأخبار ليس كما يدركه بالأبصار، وما يراه من خلال القنوات لا يعبر عما يراه بالحس والمشاهدات، وقد قالوا في الحكم: ما راءٍ كمن سمعا. وقالوا: ليس الخبر كالعيان. وقد كان الشافعي رحمه الله تعالى وهو من أجل حكماء الرجال يقول:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا ... وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائد
تفـرجُ همٍ واكتـساب معيـشةٍ ... وعلـمٌ وآدابٌ وصحبة ماجدِ
فكل فائدة من هذه الفوائد جديرة بأن تجاب لها الأقطار، وإن كان في الأسفار مشاق؛ من أجلها خفف الله تعالى عن المسافر بعض العزائم.
إلا أن الفائدة التي لا تُقدر بثمن هي صحبة الأماجد ممن ينثرون الفوائد، وما يحمله المرء من جميل العوائد، وهم العلماء الذين إن سافروا فلِله، وإن اجتمعوا ففي نفع عباد الله، وخدمة دين الله، وإن كتبوا فلما يحيي القلوب من العلم الذي تفيض به حناجرهم، وتسيل به محابرهم، لينفع الناس ويمكث في الأرض.
لقد سافرنا إلى أقصى المغرب مع ثلة من علماء المشرق الربانيين لنلتقي كوكبة من علماء المغرب؛ ونتذاكر ما تمس إليه الحاجة من فقه الواقع والمتوقع، المفتقر لتحقيق مناط الحكم الشرعي الذي تتعبد به الأمة في دينها ودنياها، وذلك في خضم الفتن المحدقة التي يحار فيها العلماء، ويتقحمُها الجهلاء، فينزلون الأحكام من غير بينة ولا برهان، بل بصلف التفيهق، وتكلف التشدق، بينما أن واحدة من تلك النوازل لو حدثت أيام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه لجمع لها مَشْيخة قريش. وإذا كانت الأمة تمور في الفتن فإن واجب العلماء الذين أُخذ عليهم العهد بالبيان، ليرشدوا القاصي والداني، أن يقوموا بواجبهم في التّبين والتبيين، فهم ملاذ الأمم، وبهم المعتصم، لاسيما في هذا الزمن الذي فشا فيه الجهل وماج، وغدا الكثير أتباع كل ناعق؛ للخواء الفكري، فيفتنهم الجاهل، ويخدعهم السراب الزائل.
إن أسفاراً كهذه هي التي يُعض عليها بالنواجذ، وتستسهل فيها المشاق؛ لأنها لله تعالى وفيه، فإذا زيد على ذلك صحبة الأماجد من العلماء أهل الخشية والإنابة، فاستفاد المرء من معارفهم وعلومهم، كان ذلك من جلائل فوائد السفر، فقد كان السلف الصالح يجوبون البلاد ليأخذوا عن محدث حديثاً، أو فقيهٍ فُتيا، أو عن حكيم حكمة، فالمرء اليوم وقد تقاربت له البلدان بوسائل النقل المريحة، أجدر بذلك، فلا يقصر في نيل هذه الفوائد إلا زاهد في الخير، لا يقدِر للعلم قدرَه.
أما الأسفار للراحة والنزهة والاستجمام، فإنها أقل من أن يبذل فيها الإنسان كثير مال أو قليل راحة، فإن المتعة التي تنال في هذه الأسفار تحفها مخاطر كبار، والسلامة لا يعدلها شيء، إلا أن يكون لهمة عالية فذلك الذي لا يقدر بثمن.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي .
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .