رثاء الجريدة الورقية

كنا نقرأ الجريدة مع صحن الفول الصباحي، نتقاسم الصفحات ونتبادلها، وفي نهاية المطاف نرى جريدة غير التي ابتعناها من قبل، فهي مبقعة بزيت الفول، ومبللة بالماء والشاي، وممزقة في بعض زواياها، وغير مرتبة ذلك الترتيب الذي نحفظه جيداً قبل البداية، لكننا نفشل في إعادة صياغتها مثلما كانت، أما أصابعنا المسودة من رصاص الجريدة، فيلزمها فرك برغوة الصابون أكثر من مرة، كي تعود كما كانت قبل القراءة.

هذا كله اختفى أو انقرض، أو في طريقه إلى الانقراض، فالجريدة أصبحت تُقرأ في منتصف الليل، وقبل النوم. هل يمكن أن تُقرأ صحيفة اليوم التالي قبل بداية اليوم نفسه؟ كيف نقرأ أخبار الغد اليوم؟ هذه ليست مبالغة، فحتى لو سلمنا أن الـ12 ليلاً تعني يوماً جديداً، إلا أن هنالك صحفاً تظهر نسخة الغد قبل هذا التوقيت، هكذا نحن نقرأ ما يشبه التنجيم، وطالما لم تشرق الشمس بعد، فإن قراءتنا جريدة اليوم التالي، تعني أن الجرائد اكتفت بأخبار الأمس الأولى، وربما حتى مساء اليوم فقط، وتخلت عن كل الوقائع والأحداث التي تجري ليلاً.

كنا ننتظر حتى ما بعد الـ10صباحاً أو أكثر، لكي نفتح الجريدة، وأحياناً لا نجد الوقت اللازم لقراءتها إلا بعد عودتنا مساء إلى منازلنا، بعد يوم عمل مرهق.

يذكرني هذا الأمر بمسألة الرسائل الورقية وصندوق البريد ومفتاحه السحري، ذلك الموضوع الذي كتبت فيه رثاءً وحنيناً وجدانياً خاصاً، ولا أعرف اليوم إن كانت ثمة صناديق بريد في المدينة، ولا أعرف إن كانت الرسائل الورقية تُرسل بالطوابع التي كنا نلصقها عند الإرسال، وننتزعها عند الاستقبال، ولا أعرف إن كان ثمة من بقي على وجه الأرض من هواة جمع الطوابع البريدية، أم أن هذه الهواية انقرضت أيضاً!

أعود إلى الجريدة اليومية، وأقول لناشريها على الإنترنت إن حكاية الـ«بي دي إف» لم تجعل من الصحيفة سوى صورة ممسوخة، فأنت لا تستطيع تبليل رأس إصبعك بلعابك كي تفتح الصفحات، وأنت لا تستطيع طي الصفحة بالقدر الذي ترتاح فيه أثناء القراءة، وأنت لا تستطيع تكوير جسدك أو اتخاذ الوضع الملائم، حتى لو كنت تستخدم «اللابتوب»، فهنالك زوايا لوضعية الشاشة، تتغير معها نسبة الضوء والألوان والوضوح والغموض، لكن الأكثر أهمية من ذلك كله، هو أنك لا تستطيع تقسيم جريدة الإنترنت بينك وبين زميل أو صديق، وبعد هذا وقبله، فأنت لا تستطيع استخدام القلم لكي تعبث بالصور، مثل أن تضع للموناليزا شاربين كثين، أو تقلع عين رئيس أو وزير، كما أنك لا تستطيع انتزاع الجريدة من الجهاز وبسطها تحت أطباق الطعام، ولا تستطيع تلبية رغبة الجيران لاستخدامات عدة، ولا تستطيع تجفيف زجاج سيارتك بجريدة الكمبيوتر.

ربما لا تكون هذه الأمور مهمة للبعض، لكنها جزء من إرث استوطن أرواحنا وأعماقنا، ولا نعرف كيف يمكن التخلص من بقاياه، هو وسواه من الأجزاء التي هيمنت ثورة الاتصالات عليها، ولذلك ليس غريباً أن تكون الأجيال الجديدة أكثر مقدرة على التعامل مع هذه الثورة العلمية من جيلنا نحن، الذي تليق به تسمية «الحرس القديم»!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة