أبواب

سحر المكان في السرد

خليل قنديل

يسعى السرد الروائي إلى ما يمكن تسميته بـ«تأبيد المكان حبرياً»، إذ تقوى بعض النتاجات الإبداعية في الرواية بشكل عام على انتزاع المكان من مضارعه الفيزيائي، ومن ثم اعتقاله في نصوص جميلة وساحرة قادرة على إنقاذه من التدمير الذي يتعرض له المكان الإنساني عادة بسب الزلازل والكوارث الطبيعية التي تعمل على محقه، وانتزاعه من الذاكرة الإنسانية.

ويمكن القول إن رواية «البؤساء» لفكتور هيجو الفرنسي استطاعت، من خلال بطلها جان فولجان أن تضع إصبعها على أمكنة باريس الخلفية، وعلى الشرائح الاجتماعية الرثة التي كانت تقيم في مثل تلك الحواري والميادين.

وعلى الرغم من أن بعض الروائيين الروس آثروا تسمية بعض المدن بـ«المدينة ك»، إلا أن القراء الروس تحديداً كانوا يستطيعون تخمين هذه المدن ومعرفة شوارعها وأزقتها! ويصل التحدي في التعبير عن المكان الروائي عند الروائي الأيرلندي جيمس جويس إلى أن يقول، بعد أن أنهى ملحمته الروائية العظيمة «أوليس»، التي تدور حوادثها في مدينة دبلن: «لو تعرضت دبلن إلى زلزال مدمر، فإن من يعود إلى روايتي سوف يكون بإمكانه أن يشيدها من جديد».

وعلى صعيد الرواية العربية، وتأبيد المكان فيها، يمكن الإشارة إلى ثلاثية نجيب محفوظ، الذي استطاع في كل جزء من أجزائها الثلاثة ان يُخلد حارات مصرية عتيقة مثل «بين القصرين» و«السكرية» و«قصر الشوق»، ولهذا لم يكن من الغريب أن يصطحب الروائي المصري جمال الغيطاني ذات مرة باحثة هندية في ثلاثية نجيب محفوظ، كي يجعلها تقف على الشرفة ذاتها التي وقفت فيها أمينة في مطلع الثلاثية.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى ما كتبه الروائي السوري حنا مينة في روايات متعددة، وهو يرصد مدن الساحل السوري، ويسعى إلى تأبيدها حبرياً.

لكن في المقابل؛ حينما تكون الفكرة الروائية أعمق من المكان، فإن المبدع يسعى إلى تشييد مكانه الافتراضي، وجعل المكان مترجرجاً وهلامياً يصعب القبض عليه أو تصوره فيزيائياً، فرواية «القلعة» لفرانز كافكا تظل فيها القلعة مكاناً افتراضياً متشعباً، لأن الفكرة في الأساس قائمة على «التيه» الذي يتعرض له إنسان حضارتنا المعاصرة. والأمر ذاته ينطبق على رواية «المسخ» لـ«كافكا» أيضاً، لأن المساحة التي ينقلب فيها البطل إلى صرصار، تجعلنا نفقد المكان لنحاول الإبحار في شخصية البطل الذي صادر مكانه.

والحال، فإن تقلبات المكان وتمظهراته في الرواية الإنسانية له فلسفته الخاصة التي تعمل على أن يكون المكان في اجمل مشاهده الفوتوغرافية كي تؤبده حبرياً، أو تعمل على انتاج المكان الافتراضي الذي يقودنا إلى مكان الروح الإنسانية التي تكون في الأغلب أشد تعقيداً.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر