« حبايب » تفضح اللجوء الفلسطيني
ظلت الأعمال الإبداعية الفلسطينية والعربية التي تتعلق بفاجعة اللجوء الفلسطيني، على مستوى المضمون، تتعامل بنوع من الوقار المبجل الذي لا يقترب من تفاصيل التداعيات الاجتماعية والانشطارية، التي خلفتها كارثة اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وتشتيته في المنافي، وظلت هذه الأعمال تتعامل مع المكان الفلسطيني المقترح ـ سواء كان مخيماً أو حيّاً ــ على اعتبار أنه المكان البريء من كل «العورات» الاجتماعية، وأن هذا المكان هو المكان «المقدس»، الذي يظل يفرّخ الأبطال والشهداء.
ويمكن القول إن بعض الأعمال الإبداعية الفلسطينية التي حفرت عميقاً في الكوارث التكوينية لشخصية الفلسطيني التي ولدها عام النكبة (1948)، لا تكاد تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة.
ربما من هنا تأتي أهمية رواية حزامة حبايب الموسومة بـ«قبل أن تنام الملكة»، والصادرة حديثاًعن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إذ تقتلعنا حبايب من منطقة التبجيل الأفاق للواقع الاجتماعي الذي خلفته المنافي على الشخصية الفلسطينية، لتضعنا بقسوة جارحة أمام فجيعة الانشطارات المفزعة التي تشكل التراجيديا الفلسطينية، وأمام كارثة النفي الجمعي التي جعلت أرجل الفلسطيني تهتز كأنها فوق أرض أصابها الزلزال، لأنها تقف على أرض ليست فلسطينية، كما أشار إلى ذلك المبدع الفلسطيني غسان كنفاني ذات مرّة.
وتعمل حبايب في روايتها على كشف عورة التكوين الفلسطيني في المنفى، من خلال عائلة تتوزع في الكويت، وفي حي النقرة تحديداً، إذ يبدو الحي كأنه استعاضة سرية ومقنعّة عن المخيم، وفي تجمعات أخرى مقترحة مثل الجبل الأبيض في مدينة الزرقاء الأردنية، ومخيم الوحدات في العاصمة الأردنية عمان.
وتركز الروائية حبايب على فكرة الذعر من الفقدان، التي تولدت من الفقدان الأكبر المتمثل بالوطن، إذ يتمظهر ديدن الفقدان، في محاولة أفراد العائلة اختراع الأماكن الآمنة لوضع نقودهم فيها، ابتداء من الجوارب مروراً في «سوتيان» الصدر، وتلافيف الحقائب الجلدية وتلك الجيوب السرية فيها، وانتهاء بالكيس القماشي الذي يوضع حرزاً في السراويل الداخلية للنساء.
وتكشف حبايب عن فقدان الإيقاع الحقيقي للأسماء التي غادرت وطنها الأصيل، فالأب الذي يحلم بإنجاب الذكر يصرّ على تسمية مولودته الأولى «جهاد»، حيث يجوز إطلاق الاسم على الأنثى والذكر في وقت واحد، وتحفر الروائية عميقاً في فكاهة الأسماء، فالأب الذي يحمل اسم نعيم يعيش في جهنم دائمة، والجدة والعمة والصديقة اللواتي يحملن أسماء، مثل رضية وفلسطين ورحمة، لترينا الروائية أن معظم هذه الصفات في الأسماء تعيش عملياً عكس مضمون ياء النداء!
وتكشف حبايب عن البراعة التي يتحلى بها الفلسطيني في ترويض مكانه المقترح الذي يقيم فيه، إذ تبدو الشقة التي تقيم فيها العائلة في الكويت، كأنها قدّت من لحمهم ودمهم، يتجلى ذلك في باب الشقة الذي تحطب أمام ضربات يد المؤجر «بوحمد»، الذي جاء ليأخذ أجرة الشقة.
إن الرواية التي كتبتها حبايب هي أكبر بكثير من هذه الإطلالة السريعة عليها، وهي رواية مكتظة بالتفاصيل المُدهشة التي تجعلنا نعيد قراءة كارثة المنفى الفلسطيني من جديد.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .