أبواب
تراتبية القراءة
حينما يُعطي القارئ العربي رأسه لكتاب صدر حديثاً، خصوصاً حينما يكون هذا الكتاب من الكتب التي أحدثت ضجتها الخاصة، فإنه يكون قد وقع في غباء القراءة وسذاجتها، ذلك انه يكون مُسرنماً تحت وطأة تلك الضجة التي أحدثها صدور الكتاب، وبالتالي يكون فاقداً لتلك العين الثاقبة في القراءة.
ومازلت أذكر رواية الكاتب الكولمبي غارسيا ماركيز الذائعة الصيت «مائة عام من العزلة» حينما صدرت، وضجة استدعاء القراءة التي رافقتها حينما صدرت بطبعتها العربية، كيف استهجنت من أحد أصدقائي ـ وهو بالمناسبة من القراء الخُلّص ـ كونه لم يقرأ، وبعد سنتين من صدور تلك الرواية، حيث قال لي يومها «أنا لا أقرأ أي رواية يصاحب صدورها ضجة قرائية، فأنا في العادة أنتظر هذه الضجة حينما تنتهي تماماً وأبدأ بعد ذلك في قراءتها».
هذا المدخل في التحقق من المسألة القرائية عربياً يفتح باب القراءة في الوطن العربي على مصراعيه، ويجعلنا نقبض على حالة تؤكد لنا أن هناك ثمة تراتبية في القراءة، وعليه يُمكن الجزم بأن هناك العديد من التراتبية في مستوى القارئ العربي.
فهناك القارئ صاحب الدرجة الأولى الذي استدل في بداية عصر النهضة على اللغات العالمية الأخرى، واستدل على كنوزها الإبداعية في الشعر والقصة والفكر، ومن ثم قام بهضمها، واعاد انتاجها بلغته العربية، فبدا كأنه منتجها الأساس. والغريب أن معظم لصوص هذه الحالة القرائية تحولوا الى رواد في الشعر وقصيدة النثر وربما الرواية ايضاً.
وكشفت القراءات الناقدة التناصية في بعض نتاجات شعراء، مثل نزار قباني وأدونيس، انها قامت على انتاج قصائد تحمل سمة «التلاصية» أي «السرقة»، معتمدة على اعتبار ان الشعوب العربية لا تجيد القراءة الا بلغتها!
وهناك مرتبة القارئ صاحب الدرجة الثانية، الذي هو بالطبع أقل ذكاء لكنه في النهاية لا يخلو من الدهاء القرائي، وهذا على الأغلب يظل يقيم في مساحة المطبلين والمريدين، وهو من يمكن تسميته بالقارئ المُركب. ذلك انه يتحول من القراءة الى الكتابة على اعتبار انه عرف كيف تكون «طبخة» الكتابة.
أما صاحب الدرجة الثالثة في القراءة فهو ذاك القارئ النهم، الذي يشرع مخياله على كل القراءات، تاركاً روحه تهضم كل الثقافات، آخذاً بعين الاعتبار حجم موهبته القادرة، على ان تختلط في كل القراءات كي تعود في النهاية الى قاعدتها الروحية سالمة.
وهو بالتأكيد من أفضل القراء نجابة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .