أبواب
طعم الكتابة القصصية
للكتابة بشكل عام مذاقها الخاص الذي يُخدّر الروح، ويجعلها تقيم في مناطق ذات ايقاعات غامضة ونائية لها طعم التهجئة ومحاولة الإمساك بتلك الرخاوة الوجودية التي تشير الى امكانية الوجود، وامكانية التنعم باليقين الذي يبدو مستحيلاً لكنه يقبل التحقق.
فأنا مازلت أذكر في صيف منتصف السبعينات كيف اقشعر بدني وأنا أقرأ إحدى القصص القصيرة في مجلة الآداب البيروتية، كيف قلت لنفسي «أنا استطيع أن أكتب مثل هذا الأدب»، وأذكر أني أخرجت ورقة وقلماً وبدأت بكتابة قصة بعنوان «المعطف» في جلسة واحدة، ولم أكن أدري أني بفعلتي هذه قد بدأت دخول عوالم القصة القصيرة، بكل ما في هذه العوالم من سحر، وأني قد تحولت من شخص عادي يستقبل ركلات الحياة، الى شخص يقف وهو يراقب كل ما يدور حوله بعين صقرية، كي يكتب قصته القصيرة المنتقاة.
إنه حبري الخاص إذن، الذي جعلني أرى قصتي تلك منشورة في احدى الصحف الأردنية، تحمل العنوان ذاته، وتحمل اسمي أيضاً.
ومازلت أذكر كيف أني كنت في مطلع الثمانينات أسير مرتبكاً في مطار «أبوظبي» استعداداُ لاستقبال احد الأصدقاء، الذي وعدني أن يحضر من عمان مجموعة من نسخ مجموعتي القصصية الأولى التي تحمل عنوان «وشم الحذاء الثقيل»، مثلما مازلت أذكر مذاق فرحي وارتعاش أصابعي وأنا أٌقلّب صفحات مجموعتي، فمرة أحدق بغلاف الكتاب ولونه الدموي، ومرة أخرى أتحسس سماكته، وأنا أقلّب أقلّب الأوراق، متصفحاً تلك القصص التي نهبت روحي واستقرت أخيراً في كتاب.
ومازلت أذكر ذاك الشعور الذي يكاد يشبه الفرح الذي يقود الى البكاء، وأنا أتصور اني بفعلتي هذه قد استطعت، من خلال القصص التي ضمتها المجموعة، أن أشيد مدني «الحبرية»، بكل ما تحمل هذه المدن من ساحات وشوارع وأزقة وبيوت وشخوص.
كتبت خلال تجربتي القصصية خمس مجموعات هي على التوالي «وشم الحذاء الثقيل» و«الصمت» و«حالات النهار» و«عين تموز» و«سيدة الأعشاب»، لكني بقيت ومع انجازي لكل قصة أحمل في اعماقي تلك الرهبة، كأني أكتب القصة لأول مرّة، وبقيت أحس بذاك الخدر الروحي اللذيذ كلما انتهيت من كتابة قصة جديدة.
وقبل أيام صدرت مجموعتي الخامسة «سيدة الأعشاب» في طبعة جديدة، وحينما استلها الناشر من بين مطبوعاته، وناولني إياها، استرجعت شعوري المُرتبك حينما أمسكت بمجموعتي الأولى، لكن أشد ما أثار استغرابي هو شعوري تجاه الطبعة الثانية مثل الشعور الذي يجعلك فرحاً بعناق حفيدك الأول.
إنها الكتابة أم الغرائب الحسية، وأم هذا الخندق الذي يضم أرواحنا بحنو نادر..
انه طعم الكتابة القصصية.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .