أبواب
دهشة الأبيض والأسود
لأن بيوتنا كانت ترتع بالأُمية ـ المبررّة نسبياً ـ فإن التكنولوجيا كانت تخلو منها، اللهم باستثناء جهاز الراديو، الذي كنّا نتشاجر على الاختلاء به، والإطلالة منه على نافذة العالم وسماع أخباره على تنوعها بين الاجتماعي والفني والثقافي.
ولهذا كانت دور السينما هي الملاذ الوحيد كي نرى الشخوص والبيوت والشوارع والميادين وهي تعج بحركة السيارات والقطارات والناس. والسينما آنذاك كانت توزع ارماتها وافيشاتها على الشوارع والزوايا المهمة في المدينة وهي تعدنا بالعرض المقبل، أو العرض القائم الآن الذي انتظرناه طويلاً.
الى ذلك كنّا نقوم بالاستنفار المالي كي نجمع ثمن التذكرة، واختيار الوقت المناسب لحضور الفيلم حيث العرض النهاري الذي يسبق غروب الشمس، كي لا نتعرض للأسئلة عن سبب غيابنا كل هذا الوقت عن البيت.
وأسعد اوقاتنا المدرسية حينما كان يجيء الى المدرسة مندوب من وزارة التربية ليبيعنا بطاقات افلام مثل فيلم « جميلة الجزائرية » او فيلم « وإسلاماه »، لنذهب الى الممول الاول للعائلة (الأب) كي نضعه امام الأمر الواقع حيث ان الذهاب الى السينما هذه المرّة يجيء بتوجيه من ادارة المدرسة!
وحينما كنا ندخل دور العرض تهب عينا تلك الرائحة الخارجة من عتمة بياض الشاشة الحليبي، التي تفحها في انوفنا المقاعد الخشبية المختلطة بطعم التبغ. ومع ان القاعة تكون مضاءة ومحروسة بأغاني عبد الحليم حافظ الا اننا كنّا نتعجل الوقوع في تلك العتمة التي لا تضاء الا بتلك الالتماعة الجميلة للصورة التي تبثها الشاشة باللونين الأبيض والأسود.
وهنا كنّا نفرح لافتراقنا عن الألوان التي كنّا نعيشها في الخارج، حيث الأحمر هو الأحمر والأزرق هو الأزرق والأبيض هو الأبيض. كنّا نفرح لأن اللون استقر بين دهشتين لا ثالث لهما، هما الأبيض والأسود. وربما لأن اللون الأبيض واللون الأسود هما صناعة بشرية وكانا يقوداننا الى مخيال مختلف في اعادة تشكيل الألوان من جديد. وهذا ما كنا نتأكد منه حينما نخرج من دور العرض بأعين مرتبكة ونصف مغمضّة امام أشعة الشمس في الخارج.
الآن وفي هذا العمر مازلت أصر على مشاهدة الأفلام العربية القديمة مبتهجاً باللونين الأبيض والأسود، فرحاً باسترداد مشاهدة فاتن حمامة وعبدالحليم حافظ ولبنى عبدالعزيز وهند رستم واحمد رمزي وسعاد حسني. ومتسائلاً عن الميادين والشوارع القاهرية التي تغيرت كثيراً، وعن مصير ذاك الأثاث الفخيم، والإكسسوارات التي كانت تجمل الأفلام.
الآن، وفي هذا العمر تحديداً، مازلت أعطي رأسي كل يوم للأفلام العربية، وأنا أستعيد ذاكرة سينمائية كانت هي السر في تشكيلي الثقافي الأول.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .