أبواب
وهم الرواية التاريخية
نعرف جيداً أن المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ، وعليه فإن التاريخ البشري ليس دقيقاً تماماً، ربما، بل من الضروري أن يكون انتقائياً في حواره مع الوقائع والأحداث التي جرت.
هذا يعني أن هنالك تاريخين على الأقل، تاريخاً رسمياً وآخر شعبياً، والمنتصر يحرص في العادة على تكريس الرواية الرسمية، وتناقلها عبر الأجيال، بكل ما تنطوي عليه من تحريف وأكاذيب ومغالطات. بينما يحاول التاريخ الشعبي أن يكون أميناً إلى حد كبير، لكنه يفتقد وسائل الحفاظ على ذاته، بالنظر إلى سيطرة الجانب الرسمي على وسائل الإعلام ومناهج التدريس. ولا يتبقى في هذه الحال للتاريخ الشعبي سوى بعض الروايات الشفوية، وهو ما يعني أن الكتابة الأدبية، والروائية على وجه الخصوص، هي الأكثر تحملاً لمسؤولية الحفاظ على التاريخ الشعبي.
هكذا ينبغي للكتّاب والأدباء العرب التعامل مع الانتفاضات والحركات الشعبية التي اندلعت مطلع هذا العام في عدد من بلدان الوطن العربي، فنحن لدينا روايتان، وكلاهما رسميتان، واحدة تمثل الأنظمة الحاكمة، والأخرى تمثل الحركات الملتبسة، التي تفتقر إلى كثير من المعلومات الدقيقة، وتخضع لتدخلات الإعلام الموجه، وطالما كانت الروايتان رسميتين، فإن على الكاتب أن يبحث عن الرواية الحقيقية، التي يمكن تسميتها بالرواية الشعبية.
والرواية الشعبية ليست هي التي يتناقلها الناس على السطح، فهذه صدى للروايتين الرسميتين، أي أن عدداً كبيراً من الجماعات البشرية تردد ما يقال من هذا الطرف أو ذاك، بينما الرواية الحقيقية مختبئة في مكان آخر، وهذا لا يعني أن كل ما يأتي في الروايتين خاطئ وغير صحيح على إطلاقه، لكنه يعني أن فيه الكثير من التوجيه والإيحاء بما يخدم فكرتيّ الجهتين المراد تعميمهما على أكبر قطاع من الناس.
وعلى هذا الأساس، فإن على الروائيين مثلاً، ألا يطمئنوا إلى سجل الوقائع المدون عبر وسائل الإعلام المتباينة، كما أن المطلوب أصلاً هو ألا ينتحل الروائي صفة المؤرخ، مهما كانت نسبة الصواب كبيرة في كتابته.
لقد كتب الكسندر فادييف روايته الجميلة « الحرس الفتي »، بناء على وثائق حقيقية، لكنه لم يلتزم بهذه الوثائق التي قدمتها له السلطة السوفييتية، الأمر الذي دفع مثقفي السلطة المسؤولين إلى التدخل فيها، فأجبر الروائي على ذكر واقعة الاستماع عبر المذياع إلى كلمات « ستالين »، وما قاله ستالين كان حقيقياً، لكن الروائي لم يجد له في الأصل مكاناً، أو لم يجده ملائماً، أو ربما وجده فائضاً، أو ربما يقلل من الاندفاع الشعبي العفوي في مقاومة الاحتلال النازي. كان يريد لهؤلاء الفتية أن يكونوا مقاومين، لأن أرضهم جرى احتلالها من قبل عدو خارجي، وأن من واجبهم أن يقاوموا هذا الاحتلال، من دون توجيه رسمي أو توصية من أي جهة. كان يود إبراز مفهوم المقاومة بوصفها قيمة إنسانية عالية، لا بوصفها أمراً سلطوياً أو عقائدياً أو ما شابه ذلك.
هذا مثال عفوي فقط للتنبيه إلى ضرورة البحث عن جوهر التاريخ في الوقائع والأحداث، لا عن الأحداث التي قد تكون موجهة أو ملتبسة أو مغلوطة أو حتى حقيقية. فيا أيها الكتّاب لا تنخدعوا بأرشيف إعلامي من هنا أو هناك، ولا تركنوا إلى ما فيه، فهو مضلل غالباً، وملتبس وغير بريء على الإطلاق.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .