«فلسطين» بعدسة أرمنية
ولد إيليا كهفيدجيان في مدينة «اورفا» التركية، وحين كان في سن الخامسة شهد الإبادة الأرمنية على يد الأتراك عام ،1915 التي فقد خلالها عائلته (والداه وخمسة أشقاء وثلاث شقيقات وأعمامه وعماته)، وتعرض إيليا لتجربة مريرة في حياته، فلا مكان يأوي إليه، فقد بيع عبداً، وتمت مطاردته من قبل آكلي لحوم البشر، إلى حين قدوم المؤسسة الأميركية في الشرق الأدنى إلى تركيا، إذ قامت بتجميع عشرات الألوف من الأيتام وأخذهم إلى لبنان أولاً، ثم إلى مدينة الناصرة الفلسطينية، وكان إيليا واحداً من هؤلاء الأيتام، وحين بدأ تعلم التصوير الفوتوغرافي قرر أن يهب عمره له.
هذه الفقرات مُستلة من المقدمة التي زينت «البروشور» الخاص بمعرض الصور الخاصة بإيليا الذي أقامه أخيراً «بنك القاهرة عمان» في العاصمة الأردنية، تحت عنوان «فلسطين تتذكر- صور نادرة أخذت قبل النكبة».
ومن يطالع صور المعرض التي أنتجها الفنان إيليا راصداً فلسطين ومدنها وناسها بالأبيض والأسود في الفترة الواقعة ما بين عام 1925 وعام 1934 لابد أن يلحظ تلك العين الأرمنية المرتعشة خلف عدسته رعباً على فلسطين وأمكنتها وناسها من أطماع استعمارية واحتلالية قادمة، ويشعر بأن إيليا الفنان الذي ولد في حاضنة «الفقدان» لمكانه الأول كان يناضل من أجل تثبيت المشهد الديموغرافي الفلسطيني بديلاً يقينياً عن مكانه الأول الذي فقده إلى غير رجعة.
وأكد المعرض جغرافية المكان الفلسطيني، وقدرة الإنسان الفلسطيني آنذاك على تأثيث حضوره الروحي والاجتماعي في المكان.
إن المدهش في صور الفنان إيليا هو معرفته الإبداعية بالمكان أو الزاوية التي يجب أن تلتقط منها الصورة، ومعرفته بالوقت المناسب من النهار لالتقاط مثل هذه الصور، واختياره الموفق لطبيعة اللقطة التي كان يصطادها كصياد ماهر. ولقد بدت هذه الفنية العالية متجلية في تركيزه على مدينة القدس، وقبة الصخرة، وساحة المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وتنوع الناس والباعة في شوارع القدس القديمة. وذهبت كاميرا إيليا إلى مدن فلسطينية عريقة، مثل يافا وحيفا وعكا، واطلالتها العمرانية المميزة على البحر المتوسط، ولم تغب عن معرض إيليا حياة الفلاح الفلسطيني وقت الحصاد، ووقت قطف الزيتون، وفي أفراحه وأعراسه، مثلما لم تغب عن المعرض أيضاً صورة العوالم البدوية الفلسطينية.
إن معرض ايليا كهفيدجيان استطاع ببساطة عدسته الراصدة أن يدحض المقولة الصهيونية التي روجت عن فلسطين انها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وأن يصفع الصهيونية بالصور الموثقة عن جمالية حضور الفلسطيني في مكانه، قبل أن تتغول عليه الصهيونية العالمية وكفار القرن العشرين وقرننا المضارع هذا.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .