أبواب
صورتنا عن الحياة
صورتنا عن الحياة، ليست نتاج تفكيرنا وتأملنا ومحاولاتنا فك رموزها وإشاراتها وعلاماتها. هي صورة مستنسخة أو مرسَلة إلينا عبر صناديق بريد متعددة ومتباينة، ومن غير مكان وزمان على الأرض.
نحن نستقبل مكونات هذه الصورة يومياً عبر وسائل الإعلام في المقام الأول. ونلتزم بصرامة بما يصل إلينا، لأن هذا هو الأسهل والأيسر. وثمة في هذه المكونات آراء ومفاهيم وأفكار لا نتعب أنفسنا بالتفكير فيها، فتصبح هي آراؤنا وأفكارنا ومفاهيمنا، نتبناها ونقدمها للآخرين بوصفها من نتاجنا نحن.
هذا التدفق السريع والكثيف للمعلومات والأفكار والمفاهيم لا يترك لنا فسحة لالتقاط الأنفاس. والذي لا ندركه هو أن في هذه المكونات المتدفقة تبسيطاً وتسطيحاً لصورة الحياة الحقيقية والواقعية، أي أن الصورة المرسلة إلينا عبر صناديق البريد هذه، تحاول اختزال الصورة الحقيقية، وتقديم صورة أكثر بساطة لكي تقوم بالدور المنوط بها، وهو الإيحاء بالواقعية.
فالحياة في حقيقتها ليست بسيطة إلى هذا الحد، والأحداث والوقائع ليست سهلة التفسير والتقييم إلى هذا الحد الذي يصل إلينا، إنها أكثر تعقيداً وأشد غموضاً مما تبدو عليه في مكونات صناديق البريد.
سوف يظل القارئ ـ كما كتب ناقد إسباني ـ يفكر في السفينة التي وجدها الكولونيل بوينديا على الأرض، على مسافة أربعة أيام من البحر، من دون العثور على إجابة، لقد حدث هذا في « 100 عام من العزلة » للكاتب الشهير ماركيز، لكن صناديق البريد لا ترسل إلينا صوراً من هذا النوع، لأنها لا تريدنا أن نفكر في السفينة التي وجدها الكولونيل.
تكتفي صناديق البريد هذه بإرسال ما هو عادي ومتعارف عليه.. تقول لنا إن الكتاب على الطاولة، والحذاء في خزانة الأحذية الصغيرة، وقطعة الصابون فوق المغسلة، والسفينة في البحر.
هنا يبرز التساؤل المحق: ماذا نفعل؟
ببساطة علينا أن ندمر الصورة النمطية لكل شيء، هذا ما فعلته الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، وما فعلته السوريالية أيضاً، فليس مهماً أن يعرف القارئ كيف وصلت السفينة إلى هذا المكان، ويكفي أن يفكر في نسق موازٍ بصفته كان مستعمَراً ـ بفتح الميم. فالحقيقة والواقع أكثر غرابة من وجود السفينة على مسافة أربعة أيام من البحر، وهي، كيف وصل الإسبان إلى هذه الأرض؟ ومن أين جاؤوا؟ ولماذا؟ وكيف أباحوا لأنفسهم حكم هذه البلاد واستعباد أهلها؟ هذا ما يردده الناقد الإسباني، وحينها سنرى أن صورة الحياة الحقيقية أكثر تعقيداً وأشد غموضاً مما تبدو عليه في مكونات صناديق البريد.
علينا أن نصدق أولاً أن هنالك تفاعلات غريبة تحدث في الحياة، وألا نكتفي بالتوصيف الموصوف بالتبسيط، فالأزمة الاقتصادية العالمية يجري تصويرها في بساطة على أنها مجرد محنة اقتصادية، بينما هي في جوهرها أكبر من مؤشرات على شاشات التلفزة، بعضها أخضر والآخر أحمر، كما انها ليست مجرد ارتفاع في سعر الذهب أو انخفاض في مزيج برنت، فهذه كلها علامات وإشارات لما هو أكثر تعقيداً وأشد غموضاً، ما يعني أن الحلول لهذه الأزمة قد تؤدي إلى كوارث لا نعثر عليها في صناديق البريد. وببساطة نقول: احذروا الصورة التي تأتي معلبة عبر وسائل الإعلام.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .