5 دقائق
ثقافة مطلوبة
يمر الإنسان بأطوارٍ مختلفة في حياته، وكلما أتى عليه طور أعد نفسه للطور القادم، لأنه يعلم أن له مهام وفيه واجبات، يبدأ ذلك من الطور الأول من حياته الإدراكية، وهو طور التمييز، فيبدأ بالدراسة أولاً، ثم يعد نفسه للبناء العائلي والسكني، ثم للحياة الأسرية كأب أو أم ومسؤول اجتماعي.. وهذا من كمال إدراك المرء لما لابد له منه في هذه الحياة الدنيا، إلا أن كثيراً من الناس يغفل عن طورٍ هو أهم الأطوار و هو الطور الذي لا منتهى له، إنه طور الحياة الآخرة التي وصفها الله تعالى بقوله : { وَإِن الدارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }، أي الحياة الدائمة التي لازوال لها، في مقابل الحياة الدنيا التي وصفها سبحانه بقوله: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ }، فتلك الحياة القادمة هي الأجدر بكل إعداد واستعداد، لأنها دار لا عمل فيها ولا مال، ولا جاه ولا رجال، إنما هي أعمال قدمها، وثمار غرس زرعها، ومستقبل طويل طالما غفل عنه.
غداً تُوفي النفوس ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
نعم هي حياة باقية في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، أو عكس ذلك للكافرين، تسبقها حياة برزخية طويلة موصولة بالحياة الباقية خيرها وشرها.
هذه الثقافة هي التي يتعين على كل امرئٍ من ذكر وأنثى أن يتعلم ما لها وما عليها وما يجري فيها، ويتثقف فيها ثقافة عالية، حتى ينبل، لأنها آتية لا محالة، بخلاف تلك الأطوار التي كان يُعد نفسه لها ويؤملها، فإنها ليست بالضرورة أن تُدرك، فقد تكون أماني، فكثير من الناس لا يبلغها، وإن أدركت فإن الإنسان ينال منها ما قدر له بأسبابه لا غير، وهي مع ذلك سريعة الزوال.
إذاً فالحياة الباقية هي الحياة التي يتعين علينا أن نُعد لها عدتها اللائقة قبل أن يدركنا الغبن على ما فرطنا فيها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من أحدٍ يموت إلا ندم »، قالوا: « وما ندامته يا رسول الله؟ »، قال: « إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نَزَع ».
ها نحن نرى العِبر تترى ممن تصرعهم المَنون بسبب أو بغيره، من مرضى وأصحاء، وشباب وشياب، وصغار وكبار، وحكام ومحكومين، والكل يغفل أنه ماضٍ في هذا السبيل وسيأتيه الدور في ساعة لا يعلمها إلا هو سبحانه، ولا يعني الإنسان معرفتها لأنها بيد مالكها، ويوشك أن يأتيه رسوله فلا مرد له، فأين نحن من هذه الثقافة المهمة التي علمها نافع وجهلها ضار؟!
وهي ثقافة سهلة ليس فيها تعقيدات فلسفية، ولا تركيبات رياضية أو كيميائية، إنها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، وذلك بأداء الواجبات، والتنافس في الطاعات، وترك المحرمات، والابتعاد عن الشبهات والشهوات، بحيث يكون في كل خطوة من حياته يعلم أنها محسوبة عليه، لأنه لم يخلق عبثاً، ولن يذهب سُدىً، بل خلق ليؤدي وظيفة جُلى من الإيمان بالله والعمل بشرع الله ثم إليه المنتهى، وإليه المآب.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .