عشر ذي الحجة

اللهُ تعالى الذي خلق الإنسان والزمان والمكان والحيوان؛ اختص من مخلوقاته ما يشاء؛ ليكون له فضل وميزة على غيره، بما جعل فيه من الخصائص، لمصلحة الإنسان الذي خلق له كل شيء، ويسر له السبيل ليصل إلى ما يليق بإنسانيته من الإكرام والإنعام، في هذه الدنيا وفي دار المقام، وها نحن نعيش زماناً فاضلاً هل علينا اليوم، لم يخلق الله من الأزمنة ما يوازيه، كما يدل عليه ذلك التنويه العظيم به في القرآن الكريم كقوله سبحانه: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشفْعِ وَالْوَتْرِ} وهو ما أشار إليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».

والحديث دال على فضلها في ذاتها، وفضل العمل الصالح فيها، وهو شامل لكل عمل من صلاة وصيام وذكر وصدقة وفعل خير، مما يستطيع المرء فعله، فأي عمل بِر يعظم فضله هذه الأيام؛ لفضل زمانه، وعلى وجه الخصوص ذكرُ الله تعالى كثيراً، فقد أراده المولى في هذا الزمان بالتحديد، مع أنه قد أمر بالإكثار منه مطلقاً، ولكن جعل هذه الأيام موسماً لذكره وشكره، كما قال جل شأنه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيامٍ مَعْلُومَات} وهو ما دلت عليه الأحاديث الأخرى الكثيرة، كحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير»، وذلك لما للذكر من عظيم الفضل، فهو أكبر من كل طاعة، فالذاكر يكون في محل ذكر الرحمن سبحانه، فناسب أن يطلبه الله من عباده في هذه الأيام، وقد كان ابن عمر وأبوهريرة، رضي الله تعالى عنهما، يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، إظهاراً لهذه العبادة الفاضلة، وتذكيراً للناس بها حتى لا يغفلوا في موسم الذكر، أما الصيام فإنه لم يرد فيه بخصوصه طلب في هذه الأيام، بل الوارد خلاف ذلك وهو ما جاء عن أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: ما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صائماً في العشر قط، وهذا لا يعني أن ليس له فضل كسائر الأعمال لمن قدر عليه، بل هو كذلك أيضاً، فهذه العشر من الأشهر الحرم، ولاسيما صيام عرفة الذي ثبت أنه يكفر السنة الماضية والباقية، وإنما المراد به ألا يجعله العمل الوحيد الذي يرى كثير من الناس أنه أفضل من غيره، فيشتغل به ويترك ما سواه، اتكالاً عليه، أو يضعفه عن غيره، والمهم للمسلم أن يستغل فرصة عمره في هذه الأيام بما استطاع من عمل صالح، فإذا كان الحجاج يكسبون فضلاً كبيراً بحجهم وعمرتهم، فإن المقيمين ليسوا بأقل منهم إن نافسوهم في الطاعات، فهذا الفضل قد سيق إليهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، يدركون به فضل المجاهدين الذين فضلهم الله تعالى على القاعدين.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة