أبواب
انقلابنا المعرفي
بعض المفاصل التاريخية، حينما تحدث فإن إيقاعاتها تتخذ مظهر الزلزال الذي يجعل كل يقين سائد يتعرض للاهتزاز والتخلخل، والدخول في عدم القناعة من جدوى استمراريته، فتبدأ بعض السلوكيات الجمعية بالاختفاء التدريجي من الأفق العام، لتحل محلها سلوكيات جديدة تبدأ بالتشكل، حتى تبدأ بعد ذلك بالدخول في مساحة اليقين.
وإذا اقتربنا من المفصل التاريخي العربي الذي نعيشه هذه الأيام، بكل ما يحتوي هذا المفصل من حضور مكثف لـ« ثقافة الصورة »، فسنلحظ اشتراطات انقلابية تفرضها علينا هذه الثقافة، اشتراطات تجعل الاتصالات التي كانت سائدة قبل حدوث هذه الثورة، تبدو كأنها ساذجة، بل أُمية.
وفي الاقتراب أكثر من طبيعة المشهد الانقلابي الذي نعيشه حالياً على المستوى العربي، نلحظ أن لكل واحد منّا جحره الإلكتروني، المسمى « الإيميل »، وأن لكل جحر من هذه الجحور مكانته المقدسة عند صاحبه، التي تجعله يحفظ الأرقام السرية التي تفتح هذا « الإيميل » أو ذاك، وأن هذه « الإيميلات » التي وسعت آفاق التواصل بين الأفراد، استطاعت في الوقت ذاته أن تعتزل الفعل الجمعي المرتبط بالتواصل الحميم، وأن تجعل الموقع أو « الإيميل » بمثابة قلعة حصينة لكل فرد منّا.
وحين نقترب أكثر من ذلك فسنشعر بأن ذاك السحر البياني الذي كان يغلف صوت الخطيب العربي قد اختفى، وصار إيقاعه في الحبر المكهرب على شاشة « الكمبيوتر » مرتجفاً ومُصمتاً، وهذا يقودنا إلى القول إننا بدأنا نعيش وبشكل جمعي في عالم الإيماءة، وإننا ربما، بعد فترة ليست بالبعيدة، نكف عن جعجعاتنا الصوتية، وعن فقهنا الشفاهي، وعن التخلي عن أثرها في توليد الحالة الثورية، ونعتمد في تواصلنا على الإيماءة!
لكن يجب علينا، ونحن نستقرئ تحولاتنا الاجتماعية داخل متاهة ثورة الصورة وتمظهراتها الاجتماعية فينا، أن نعترف بأنه ومن خلال تواصل هذه المواقع عن طريق « فيس بوك » و« تويتر » و« يوتيوب » استطاع الشباب العربي الثائر على طغاة « الدكتاتوريات » العربية أن يصنع ثورات امتلكت القدرة على قصف عمر هؤلاء الطغاة.
والحال فإن مجتمعنا العربي بدأ بالتغير القسري، وبدأ يعيش انقلاباته المعرفية التي زلزلت الساكن فينا، وشرعت في دفعنا إلى إعادة النظر في مُنجزنا الأدبي والمعرفي، وربما الفلسفي، وأن كل من يحدق مليّاً في الصورة التي يقيم فيها الشعر العربي على سبيل المثال، سيجد أن شاعر المنصة قد اختفى، وأن الشعر ذاته ربما بدأ يتبدد في المدونات، كما سيلاحظ أن الهمّة النقدية الجادة التي كانت تميز نقادنا تكاد تختفي وتتبدد هي الأخرى.
وعليه، يمكن الجزم بأننا نعيش مرحلة انقلابية بالفعل على الصعد الحياتية كافة، وأنه علينا الاستعداد لتسديد فواتير ثمنها عدم وجود الدراسات الاجتماعية والاستباقية الواعية لأسباب وتعلات ومظاهر هذا الزلزال.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .