الكاتب والربيع العربي
أن تكون كاتباً في العالم العربي، فهذا يعني أن تصبح «ملطشة» للسلطة والمجتمع معاً، ويعني أحياناً ألا تجد ما تسد به الرمق، ويعني أحياناً أخرى أن تستعين بصديق لتطمئن نفسك أنك لاتزال على قيد الحياة، وأن تستعين بعراف حيناً خوفاً من الغد، وما بعد ما بعد الغد.
أن تكون كاتباً في العالم العربي، يعني أن تمشي في حقل من الألغام، التي لا تنفجر إلا بخطوتك أنت، وأن تسير على حد السكين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأن تتشبث بأغصان شوكية صلبة، خوفاً من السقوط في الهاوية.
أن تكون كاتباً في العالم العربي، فهذا يعني أن أنفاسك معدودة عليك، وضحكتك لها مغزى، وعبوسك ذو مغزى، وأنك لا تفعل شيئاً لله كبقية البشر.
أن تكون كاتباً في العالم العربي، فهذا يعني أن مصائب الأمة كلها بسبب حبرك، وأن أي «دقرة» للدولة في مسيرتها ما هي إلا بسببك أنت، وأنك شخص لا يعجبك العجب، ولا الصيام في رجب، وأنك تعتاش على النميمة والوقيعة، وأنك مرتبط بجهة ما داخلية أو خارجية، وأنك تردد أفكاراً مستوردة، وأنك كافر أو ملحد أو مرتد، وأنك لا تعرف صلة الرحم ولا صلة الدم.
هكذا كانت السلطة تفهم الكاتب العربي على امتداد عقود أو أكثر، لكن الذي اكتشفته أخيراً، أن هذه الثقافة وهذه الرؤية ليستا مقصورتين على السلطة، وإنما تتعداهما إلى المجتمع، وإلى أقرب الناس إليك في كثير من الحالات.
كيف وأنت الكاتب الذي يتردد اسمك في الجرائد والمواقع الإلكترونية، كيف تقنع موظف ضريبة الدخل أن دخلك الشهري بالكاد يدفع أجرة بيتك؟ وكيف تقنع جارك الذي يرى صورتك في الجرائد أنك لا «تمون» على الوزير الفلاني أو المدير العلاّني؟ وكيف تقنع قريبتك أنك غير قادر على توظيف ابنها أو ابنتها، وأنت تلتقي كبار القوم؟
ثم، وهذا هو أخطر ما في الأمر، كيف تقنع محرر الجريدة التي تكتب فيها أن هذا المقال ليس متطرفاً مثلاً؟ أو أنه مجرد رأي ضمن حرية التعبير التي تعد سمة بارزة من سمات الربيع العربي المزعوم؟ وكيف تلبي شروط الصحيفة أو الموقع الإلكتروني إذا كانت هذه الشروط ضد قناعتك وضد رؤيتك؟
أمام الكاتب العربي في هذه الحال خياران لا ثالث لهما: إما أن يصمت، وإما أن يستجيب. هكذا تفعل المنابر الإعلامية بنا في الداخل والخارج، لكننا ننجح أحياناً في التحايل عليها، نرمي بجملة عابرة، ثم نتبعها بموقفنا ورؤيتنا الواضحة، نلقي بعبارة مخاتلة، ثم نحكي بعضاً مما نريد.
الغريب في الأمر، هو أن هذه المنابر كلها تقريباً، هي التي «تطبل وتزمر» للربيع العربي ليل نهار، والربيع العربي موسوم بحرية التعبير، كما فهمت من محبيه ومن مناصريه، وهو أمر في غاية الغرابة والتناقض!
وختاماً، وعلى طريقة العسكري الطيب شفيك: أخبركم بكل تواضع أيها الأصدقاء، بأنني لن أكف عن كتابة ما أريد، مردداً بعض ما قاله الشنفرى:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى/ وفيها لمن خاف القلى متعزلُ. وَأَسْتَـف تُرْبَ الأرْضِ كَي لا يُرَى لَـهُ ... عَلَـي مِنَ الطـوْلِ امْـرُؤٌ مُتَطَـولُ.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .