أبواب
الاختلاف والعماء المطلق
كيف يمكن أن تكون هنالك ديمقراطية في أي مكان وزمان، من دون حرية الرأي والتعبير والمعتقد، وبالتالي حرية الاختلاف؟ لقد وقعت النخب الثقافية العربية منذ مطلع السنة الجارية في كمين الاحتكار والمطلق، وأصبح الانقسام الثقافي حول كل ما جرى ويجري غير قابل للترميم بالحوار، الذي هو السمة البارزة للاختلاف في الحواضن الديمقراطية.
فنحن ننادي بالحرية والديمقراطية، ونرمي من يخالفنا الرأي بتهمة العصيان أو الردة، ويبدو أننا حتى اليوم، لم نبلور ثقافة ديمقراطية حقيقية، واكتفينا بعملية الانتخاب لنجعل منها جوهر الديمقراطية، وما نعرفه، هو أن الانتخاب آلية لتنظيم الحكم، وقد تكون هذه الآلية صحيحة وموضوعية، لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى تشكيل بنية ديمقراطية حقيقية، فكثير من الأنظمة الدكتاتورية تجري عمليات انتخاب دورية، لكنها تحافظ في الوقت نفسه على جوهر الاستبداد أو الشمولية أو الأوليغارشية.
نحن هنا لسنا ضد آلية الانتخاب في سياق بناء منظومة ديمقراطية، لكننا ضد أن تتحول آلية الانتخاب إلى تشريع مطلق أو إلهي، فالأيديولوجيا التي تنتجها آلية الانتخاب لا تعترف بغيرها من الأيديولوجيات الدينية أو الفكرية، وهي بذلك مضطرة إلى تمتين سلطتها وتعزيزها، لكي تستمر آلية الانتخاب قادرة على إعادة إنتاج هذه الأيديولوجيا نفسها، وفي هذا السياق تضطر هذه الأيديولوجيا إلى تطبيق التهميش والإقصاء والعزل على سواها من الأيديولوجيات والمفاهيم والأفكار في إطار مزخرف يُسمى الديمقراطية.
لقد وجدنا أنفسنا فجأة مجموعة من القبائل المتناحرة، التي تضطر بين عقد وآخر إلى اللجوء إلى شيخ العشيرة كي يجد حلاً مقبولاً للخلاف أو النزاع، كما فعلت العرب إبان حرب داحس والغبراء، عندما لجأت إلى زهير بن أبي سلمى الثمانيني لكي يوقف الحرب، ويبدو أننا بعد كل هذا المديح للربيع العربي، سوف نعيد الكرة نفسها، ونلجأ إلى شيوخ العشائر «المودرن»، لكي نجد حلاً لخلافاتنا القائمة حول هذا الربيع، فقد استعنا بالشيوخ والفتاوى والقبائل والعشائر للتأييد والرفض، لئلا نفكر في الحوار الملازم للاختلاف في المشروع الحداثوي، أي أننا نجيد الاختلاف أو نستسهله لأنه جزء من تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا، لكننا لا نجيد الحوار لإدارة هذا الاختلاف، ونكون بذلك كمن يجيد إشعال الحرائق ولا يجرؤ أو لا يعرف شيئاً عن آلية إطفائها، وعلى سبيل المثال، فقد سطع نجم السلفيين في مصر عبر آلية الانتخاب التي تحدثنا عنها، وكان أن أطلقوا سلسلة من الآراء والمواقف القائمة على الشريعة كما يقولون، فأباحوا الجلوس مع «إسرائيل»، وتعهدوا بالحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد، لكن أبرز موقف تمثل في رأيهم في أدب نجيب محفوظ الذي اتهموه بأنه يبعث على الرذيلة، ويجب التخلص منه، وهنا يكون السؤال مشروعاً: كيف تحاور رأياً أعمى؟ وحين نقول «أعمى»، فلأنه لا يرى في الكون من يستحق الحوار، وإنما من يستحق التمجيد أو التكفير لا غير.
ومن الطبيعي أن يكون «ترذيل» أدب نجيب محفوظ مجرد مثال لرؤية قائمة على العماء والانغلاق، لكن، كيف يمكن إقناع النخب الثقافية المؤيدة والمعارضة بضرورة الحوار؟ أم علينا أن ننتظر 10 سنوات من الحرب لنلجأ إلى شيخ العشيرة مرة أخرى؟
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .