أبواب
روح الاستبداد
استطاع استبداد السلطان في الشرق عموماً، وفي الوطن العربي بشكل خاص، أن يحفر عميقاً في الوجدان الجمعي، وأن يتصلب في الروح بسماكة فولاذية، الى الدرجة التي أصبحت فيها هذه الذات تخضع بشكل طوعي لاستبداد السلطان، من دون أن تحاول البحث في حيثيات هذا التسلط التاريخي، ولا أن تستفيد من تجارب الشعوب في العالم في التحرر من استبداد الديكتاتوريات بكل أنواعها. تاركة كل التطورات المدينية التي عاشتها الشعوب العربية تنمو بعشوائية هشة فوق هذه الصلابة الفولاذية.
والوطن العربي الذي قادته ثورات انقلابية متتالية في حقبة خمسينات وستينات القرن الفائت، لم تستطع، على الرغم من شعاراتها التحررية المطلقة في تجسيد الحرية والوحدة والاشتراكية، أن تغسل روح المواطن من الخوف والهلع ازاء السلطة القائمة. والغريب أن هذه الثورات الانقلابية تحولت الى أنظمة وراثية وأخذت تستعد الى ذلك، لولا أن رياح ثورات الربيع العربي قمعت هذا التوجه في مهده.
ويبدو ان الكتابة الثورية الحقة التي كتبها المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي عن طبائع الاستبداد اوائل القرن العشرين وهو يستنهض أفراد الأُمة العربية كانت تبدو جرس انذار مبكر، داعية الى عدم طأطأة الرأس للجلاد، لكن طبقة النخبة العربية الهجينة والمعتقلة داخل دهشة وعيها المبكر، آنذاك، آثرت أن تعلو الى مصاف السلطان وبطانته، وأن تعتقل الفرد العربي في قمقم الاستعباد الأبدي.
ومع فكرة التقادم لتكريس روح الاستعباد، استطاع الديكتاتور العربي أن يفرخ من خلال بطانته ديكتاتوريات تتناسل في واقعنا العربي بشكل يكاد يكون أبدياً. فالنخبة والبطانة التي كانت تتنشق رائحة الديكتاتور صبح مساء، وتزين له عقده التسلطية حد التأليه، استطاعت زمنياً أن تكون ظله الموازي حتى لو نهضت الجماهير من سباتها، وقامت بإعدام سيدها المُستبد، فهذه الفئة التي ظلت تتناسل عبر تاريخنا الاستبدادي هي السيف المصلت على رقاب العباد، وهي ما استطاع الديكتاتور أن يفرخه ويبيضه في أرواحنا جميعاً.
إن من يراقب منجزات ثورات ربيع الشباب العربي ومتتالياته، لابد أن يلحظ الثورات المضادة التي تحاول أن تُعيد الشعوب الى عرجها التاريخي، وأن تخلط الأوراق بمرجعيات معقدة الى الدرجة التي جعلت بعض شعوب هذه الثورات تترحم على ايام الديكتاتور.
وربما هنا تكمن نواة الروح الاستبدادية التي تجذرت في أرواحنا ووضعتنا وسط كل هذا العماء.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .