أبواب

إبراهيم أصلان كاتب سيرة المهمشين

يوسف ضمرة

قد لا تبدو صفة «العبثية» مقبولة لدى كثيرين، في وصف أدب الراحل إبراهيم أصلان، ذلك أن مفهوم العبثية كما هو شائع، يحط من قيمة الأدب، ويجرده من حكمته.

لكن المفهوم الحقيقي للعبثية، وكما نعثر عليه في كتابات أصلان، يضفي على الواقع الموضوعي أبعاداً غير مرئية فيه، ذلك أن الفقر والتهميش اللذين يطبعان شخصيات أصلان وحكاياته، إنما هما من ملامح العبث الراسخة في الحياة، ثمة فقر غير مبرر، وثمة تهميش لطبقة هائلة من الناس من دون مقدرة على استيعاب الأسباب والمبررات، في ما يخص هذه الشخوص، ولذلك تنبني هذه الشخوص في صور متضادة أو غرائبية، ربما هي المبرر الأكبر لصفة العبثية التي أشرنا إليها، فلماذا يجازف الشيخ حسني في «مالك الحزين» بحياته مثلاً، لكي يؤكد أنه طبيعي ومبصر كالآخرين؟ هذا التوكيد ليس موجهاً لغيره كما قد يظن البعض، مقدار توجيهه إلى الذات. إن قيادته الدراجة النارية ليست نزوة عابرة كما قد يظن البعض، لكنها تحقيق لرغبة دفينة في التغلب على واقع أكبر من العمى.. واقع الفقر والانسحاق والتهميش الذي يعيشه الشيخ حسني وثلته في إمبابة وفضل الله عثمان، يذكرنا هذا المشهد بمشهد الفتاة الطائرة في «مائة عام من العزلة» لماركيز، فهو مشهد سوريالي إلى حد كبير، لكنه يحمل في طياته تعاليا وانتصارا على الواقع الموضوعي المعيش، وإذا كانت الحكايات الشعبية السحرية تسمح عند ماركيز بمثل هذا المشهد، وتجيز تقبله، فإن المجازفات غير المحسوبة في «مالك الحزين» تقبل هي أيضاً بتقبل المشهد وأمثاله.

بين إمبابة وفضل الله عثمان وميدان الكيت كات تدور معظم قصص إبراهيم أصلان، وأخص هنا روايته «مالك الحزين» وقصصه «حكايات من فضل الله عثمان». وإذا كان إبراهيم أصلان عاش ومات قليل الظهور إعلامياً، فذلك ينسجم إلى حد كبير مع شخوصه وحكاياته، فهي شخوص مهمشة وملقاة على قارعة الحياة اليومية، لكنها في المقابل تمتلك من المغامرة والجرأة والإبداع ما لا تقدر عليه الشخوص الواقفة في الضوء، تلك الشخوص التي لا تجرؤ على التخلص من الوظيفة أو العمل فجأة من دون مبرر، وتلك التي تبدو كأنها تعاقب الحياة على تهميشها لها، وإذا كانت شخوص أصلان كذلك، فلأن الواقع الموضوعي يوفر مناخاً ملائماً لبروز هذه الشخوص، وللسلوك الغرائبي لها أحياناً كثيرة، هنا يصبح الموت فعلاً عادياً لا يستحق أكثر من إشارة إليه، فإذا كانت حياة الشخوص مهمشة إلى هذا الحد، فإنها بالضرورة قادرة على تهميش الجانب الآخر، بل والسخرية منه أحياناً، تماماً كالسخرية من فقدان الحواس، والمقدرة على الانتصار عليها.

هي معركة المهمشين إذن، يصورها إبراهيم أصلان على طريقة باختين التي وصفها بالجروتسكية أو الكرنفالية، التي تذكرنا ـ كما يقول ـ بالتماثيل المزدوجة المظهر، كتماثيل الشياطين الضاحكة مثلاً، وهي سخرية من الدلالات التي تشير إلى مفردات الحياة اليومية، بحيث تصبح الحياة كلها مثار سخرية، ومجرد كرنفال مملوء بالأقنعة.

أجل، هو كاتب سيرة المهمشين، لكن، في صـورة فيها الكثير من العبث الذي يواجه قسوة الحياة وتهميشها الفقراء والبسطاء بقسوة غير مبررة إنسانياً على الإطلاق!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر