ذاكرة تنكيل العربي
بعض الطبائع الاستبدادية في القتل والتعذيب والتنكيل تشكل علامة فارقة وفاصلة في التاريخ العربي وفي تاريخ المُستبد العربي، وفي كل قرن يمر على هذه الكيانات السياسية العربية، يعتقد المواطن العربي واهماً، وهو يرى دولته تسير باتجاه الدولة المدينية، انه يمكن التخلي عن الزنازين والسراديب والأقبية المعتمة الرطبة، وعن تكميم الأفواه حد القتل في تلك الأمكنة. لكنه يكتشف، عند أول حالة تظاهر أو عصيان، أن عسس السلطان العربي يمتلكون جاهزية طازجة في معاودة التاريخ القمعي للسلطان الجائر واقتياد الناس إلى تلك الأقبية ومعاقبتهم بأحدث السُبل التكنولوجية في التعذيب.
إن طبع الاستبداد النائم في أعماق السلطان الجائر يستيقظ بعافية جديدة حينما تنهض المعارضة من سباتها القمعي، وان هذا الاستبداد الذي يبدو لنا احياناً ونحن نسير في خطى الدول الحديثة كأن أمره انتهى وانقرض، يصبح أكثر تألقاً وهو يزيل عن ملامحه ذاك «الخمج» التاريخي، ويرينا كل تلك البشاعة في قمع الفرد وهرس حرياته التي يطالب بها.
ومنذ ان انطلقت شرارة احتراق جسد البوعزيزي في تونس ضد الطاغية زين العابدين، وانطلاق شرارة الحراك الشبابي الثوري العربي في مصر وليبيا واليمن وسورية، بدأت الأقبية والسراديب والزنازين والمقابر الجماعية تتكشف امام كاميرات التلفزة وهي ترصد قسوة القمع والتنكيل عند هذه الأنظمة، لتكشف للمواطن العربي كذبة التحضر السياسي التي كان يدعيها هذا النظام الديكتاتوري او ذاك. وبدأ المعتقل السياسي العربي الذي ذاق الأمرّين من هذه الأنظمة يظهر امام كاميرات الفضائيات بملامحه التي مازالت تغزوها عتمة الاعتقال كي يسرد على المشاهدين العرب قصته المهولة في التعذيب والتنكيل.
نعم لقد مرّ ما يزيد على قرن، والمواطن العربي الذي شيد دولته بالعرق والدم والشهداء، معتقداً أن دولته ذاهبة باتجاه التحضر ومواكبة العصر، كان يتأكد من ذلك عبر الثورات والانقلابات المتسارعة والنشيد الوطني والاستعراضات العسكرية ونشرات الاخبار التي تظل تمجد همة الرئيس، لكنه نسي أن هؤلاء هم احفاد الجد، الذين فتكوا بكل حركات المعارضة تاريخياً، ذاك الجد الذي وضع المفكر ابن المقفع على سفود لا لشيء سوى انه كتب على أثر الاختلاف التاريخي بين الأمين والمأمون رسالة عنوانها «إصلاح ذات البين».
نعم، إن المُستبد السادي مازال يقيم بيننا، ولم تتم معالجته عبر التاريخ أبداً!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .