أبواب
العين الرائية
تظل الأماكن والمدن نائية وبعيدة عن التثوير في المشاهدة، وتبقى في رتابة المشهد واعتياديته الموجعة، إن لم تقبل عليها وتباغتها عين المبدع، تلك العين التي تسعى في الذهاب الى أدق التفاصيل الجميلة في المكان، وإلى مطارح اثارته التي تقوى على ادخال الدهشة الى تلك العين.
إنها اذن العين الرائية للمبدع، التي ما أن تحط في المكان حتى تبدأ باجتراح تداعيتها التي تسبغ على المكان اكتشافات جديدة قادرة في وقت لاحق، وحينما تكتب، على أن تتأبد حبرياً، وتدخل القارئ المقيم في المكان ذاته في دهشة اكتشاف مكانه وجماليات هذا المكان من جديد.
من هنا يمكن استدراج أمثلة عدة لأمكنة استطاعت أن ترتفع في جغرافيتها المكانية بسبب حضور عين المبدع الرائية، فما كان لمدينة مثل باريس أن تأخذ مثل هذا الحضور البهي في الكتابة الإبداعية لولا العين الرائية للمبدعين،
فالكتابة التي اجترحها الأميركي ميلر في مجمل رواياته استطاعت ان تكشف للقارئ هذا الحضور البهي والجميل لباريس، والأمر ذاته ينطبق على كتاب وفنانين كثر هجروا مدنهم وحجوا إلى باريس، وتغنوا بمفاتن ساحاتها ومقاهيها الرصيفية، واشتباك العلاقات الإنسانية فيها.
ومن يقرأ رواية رباعيات الاسكندرية للورانس داريل البريطاني، سيكتشف القدرة الحفرية العميقة لعين داريل الرائية لطبيعة جغرافية وديموغرافية ساكنة في اعماق المجتمع الاسكندراني، يصعب بالفعل على ابن المكان ذاته ان يراها، لكن عين داريل الثاقبة لأدق التفاصيل في بنية هذه المدينة واختلاط اصول سكانها هي ما جعلته يصبح السيد القادر على تأبيد حضور المكان روائياً وإبداعياً.
وفي وقت تسرطن الكونكريت في مدينة طازجة نسبياً مثل نيويورك، وتسلط المناخات الرأسمالية، نلحظ الكآبة الطافحة عند الشاعر الأندلسي لوركا في نبوءاته المبكرة شعرياً عن قسوة المكان في نيويورك حين زارها وأقام فيها، وقد تبعه في ذلك الشاعر السوري أدونيس، حينما كتب قصيدته عن نيويورك.
وحينما أحس الفنان جوجان بقسوة التمدن في المكان الباريسي، أحس بشوق الى البدائية والفطرية النقية، كي يقتنص لوحته المغافاة من تدرن المكان المديني، اختار الذهاب الى جزر تاهيتي، كي يقتنص لوحته البدائية من طبيعة المكان البدائي وسكانه.
والحال أن العين الرائية للمبدع لا تشبه عين السائح، ولا عدسة تحنيطه للمكان بالتقاط الصور، إنها العين الكاشفة للتفاصيل المخبأة في طيات المكان، وهي العين الكاشفة والمدهشة لكل مخبوءات المكان، ولعل هذا هو ما يُميزها.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .