أبواب
ميدان التحرير في « مالك الحزين »
لو سألت مئات الآلاف الذين تجمعوا في ميدان التحرير منذ الخامس والعشرين من يناير ،2011 عن رواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين»، فلربما لن تجد العشرات ممن قرأوا هذه الرواية من قبل. ولو سألت الراحل إبراهيم أصلان بعد صدور روايته عام 1972 عن هذا المشهد الذي رسمه وتخيله في روايته، وعما إذا كان سيراه ذات يوم، فلربما لن يكون قادراً على الإجابة.
لقد صور أصلان ذلك التجمع الهائل في ميدان التحرير قبل حصوله وتحققه موضوعياً بـ40 سنة. والتصوير الذي نتحدث عنه ليس شبيهاً أو قريباً، وإنما يكاد يكون متطابقاً، وهو ما يذكرني بفيلم خالد يوسف «حين ميسرة».
هل الكاتب متنبئ حقاً؟ هل هو ملم بتفاصيل المستقبل؟ في الإجابة تتعين أهمية الفن ودوره.
فالكاتب ليس منجماً ولا متنبئاً ولا قارئ كف، بل يمكن القول إن اختلافه عن الآخرين يكمن في جرأته على الجهر والاعتراف بقلة العلم وانعدام اليقين، وهو ما يدفعه إلى الكتابة، أي إن الكتابة أصلاً هي شكل من أشكال البحث عن المعرفة. وفي سياق هذا البحث، يتمكن الكاتب الحقيقي من ملامسة جوهر الأمور والمفاهيم والقيم، ويتمكن أيضاً من تفحص حركة التاريخ وفهمها وفهم مساراتها المتعرجة.
أما الأمر الآخر، فهو أن الكاتب لا يبخل بأحلامه وهواجسه في الكتابة، بل هو أكثر الناس جرأة في التعبير عن هذه الأحلام والهواجس. إن كل ما يملكه الكاتب هو عدم الرضا عن واقع قائم وراهن، إضافة إلى خيال جامح يصل إلى ما لا تقدر خيالات الآخرين على الوصول إليه، وهذا الجموح في الخيال، هو الذي يتمكن من مفاجأة القارئ في كثير من الكتابات، شأنه في ذلك شأن الفنانين على اختلاف فنونهم وميادينهم.
لم يكن إبراهيم أصلان يتنبأ بثورة في ميدان التحرير كما حدثت. كان يدرك أن هذا الفقر والتهميش والتجويع وسلب الكرامة والإرادة والإقصاء، لن يجعل من المجتمع ـ أي مجتمع ـ بنية فاقدة للمشاعر والأحاسيس، وجماعة من الناس يصيبها النسيان الجمعي، فتنسى القيم الإنسانية التي عليها تقوم الحياة الحرة والكريمة. أما تحديد زمن الانفجار فلا يحدده الكاتب، لكنه يدرك جيداً أنه زمن في اليد، وليس زمناً وهمياً أو متخيلاً. إنه زمن موضوعي قائم على دورة الأرض حول نفسها وحول الشمس، وليس زمناً غيبياً مستلاً من الخرافات والحكايات الشعبية. وإذا كان أصلان فعل ذلك، فهذا لا يعني أنه الوحيد بالضرورة، لكن إعادة قراءته إثر رحيله، هي التي تجعلنا نكتشف هذه الإشراقات، ما يعني أن غيره من الكتاب فعلوا ذلك بشكل أو بآخر.
خلاصة القول، هي أن الكاتب الحقيقي والأصيل، قادر على قراءة التاريخ ومساره، وقادر على استبطان حركته، ولديه من جوح الخيال ما لا يملكه سواه، الأمر الذي يجعله قادراً على الإبداع والابتكار، وقادراً على أن يكون عالم اجتماع من دون السير على هدي نظريات اجتماعية محددة، أي أن له نظريته الخاصة التي تمنحه رؤيته الخاصة. هذا ما اكتشفناه في «مالك الحزين»، وربما سنكتشف الكثير والأشد غرابة لدى كتاب آخرين لو أعدنا قراءتهم كما فعلنا مع الراحل إبراهيم أصلان.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .