5 دقائق

سنة الابتلاء

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

جعل الله تعالى الدنيا دار ابتلاء للعباد؛ مؤمنهم وكافرهم، وذكرهم وأنثاهم، فمنهم من يبتلى بالمال، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من يبتلى بالصحة، ومنهم من يبتلى بالمرض، ومنهم من يبتلى بالعلم، ومنهم من يبتلى بالجهل.. كما قال بعضهم: قد يبتلي الله بالضراء وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

وهذا ما أفاده قول الحق سبحانه: {الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا}. فالحياة بمفهومها الشامل كلها ابتلاء، أي اختبار، وقد يكون هذا الكلام معلوماً لكل قارئ، إلا أن كثيراً ممن يعلم ذلك لا يسعى للنجاح في هذا الابتلاء، وحقيقة السعي للنجاح والفوز في هذا الابتلاء هو العمل الجاد على وفق منهج الله تعالى الذي له الخلق والأمر، فإنه سبحانه قد أنزل شرعاً يُعمل به يتضمن ما يصلح أحوال الناس مع مالكهم سبحانه في العبودية، ومع إخوانهم من الناس في التعامل المتعدد الأنواع والمشارب، وأراد سبحانه أن يرى أيّا من عباده يعمل صالحاً يرضاه وفق ذلك المنهج الذي أنزل به كتابه وبعث به رسوله، وخلق للمبتلين عقولاً تميز الخير من الشر، والنافع من الضار، أو يخسر خسراناً مبيناً فيجازيه على خسارته بما شاء من عدله، كما جازى من نجح بما شاء من فضله.

فمن يا ترى ينجح في هذا الابتلاء؟ أهم الأقوياء الذين يبتزون الضعفاء فيمتصون دماءهم ويهدمون البيوت على رؤوسهم ويهلكون حرثهم ونسلهم؟ أم الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة إلا أن يشكوا ضعف قوتهم وقلة حيلتهم للقوي العزيز؟ والحقيقة أن المستكبرين في الأرض هم الذين خسروا الابتلاء، فهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً بالعذاب والتنكيل بعباد الله، ويظنون أن الدنيا ستظل وفية لهم، يأمرون فيطاعون، ويظهرون فتخر لهم الجباه ركعاً وسجوداً.

وهذا قصور في الفهم واتكال على عجز وخور، فأين من كانوا كذلك في الأمس القريب أو في الزمان البعيد؟ إنهم قد بادوا كما باد الأُوَل، وأصبحوا حديث السخرية وقد كانوا مضرب المثل، وهذه { سُنةَ الله فِي الذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنةِ اللهِ تَبْدِيلا}، فمن يا ترى يبلغ هذه السنة قياصرة الشام الذين ينكلون بشعب حملهم نحو نصف قرن، وأطعمهم بآنية الذهب واللؤلؤ والمرجان، ويوم أن أراد الخروج من تلكم العبودية، ليعيش حراً كما يعيش الناس، نسي القياصرة ما قُدم لهم من إحسان، وكافؤوهم بالطغيان، وأفنوا الصغار والكبار، وسيظل حديث الأعصار، فمن يحميهم من بطش الله الذي أخذ به الأقران؛ فمنهم المجندل في الرغام، ومنهم المنفي في الأرض، ومنهم الموثق بالأغلال؟ والسنة التي مضت على الأولين تأتي على الآخِرين، فيا ليتهم يعون الأحداث، ويستفيدون منها، ويرحمون شعبهم وقومهم، فلعلهم يرحمون أو يخفف عنهم من العذاب، ولكن من الذي ينصح لهم ويوصل إليهم مثل هذه الحقائق التي شغلتهم عنها أمور لا تسمن ولا تغني من جوع. إن اللائمة على من يصل إليهم من العلماء والملأ من حولهم كبيرة، ولعلهم أول من تسعر بهم نار جهنم؛ لكونهم لم يأطروهم على الحق أطراً، أما أولئك المستضعفون فهم في وطأة الابتلاء، فعليهم أن يصبروا فمن لم يمت بالسيف مات بغيره.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء .

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر