أبواب
غياب الجدّة
فجأة وعلى نحو مباغت، اختفت تلك الجدّة من بيت العائلة.
اختفت تلك الأم الجدّة التي جعلت الكاتب الروسي «مكسيم غوركي» يكتب رائعتــــه الروائية «الأم»، كما اختفت تلك المـــرأة الدهرية التي كانت تقيم في بيت «مائة عام من العــــزلة» لـ«غارثيا ماركيز»، وتــبعتها عجوز الروائي المبدع الفلسطيني «غسان كنفاني» في رائعته «أم سعد».
إنهن النساء الهرمات اللواتي يؤكدن دائماً على آخر عنقود السلالة العائلية، حيث تبدو الواحدة منهن وكأنها تحرس إرث العائلة.
غابت تلك المرأة التي أثثت بروحها الغامرة بالحنو، طعم الهواء في باحة الدار وفي معظم جنباتها. غابت عجوز البيت التي كانت تبدو كأنها لا تغفو وهي تستعجل قدوم الفجر وانتظار صوت مؤذن صلاة الفجر بالدعاء، وتستنهض العائلة ابتداء بالأب والأم وبقية الأبناء كي تطلقهم ليدقوا أبواب الرزق وأبواب التعلم في الفصل المدرسي.
غابت تلك المــرأة الجدة بثوبها الفلكـــلوري وتطـــريزاته العجائزية وغطاء رأسها المتألق في البيـــاض، وتلك الإطلالة البهيّة لملامحــها وهي تمنحك يقين الطــمأنينة، وتلك اليد التي حينما تمتـــد في الهواء كي تمسد على رأسك وهي تقرأ بعــض الأدعية وقصار الســـور القرآنية، تشعرك بأنها تصب كلام الله في قلبك، وتبثّ في روحك وهج الإقبال على الحياة.
غابت تلك الجدّة التي كانت تواظب على الصلوات الخمس إضافة إلى صلاة الضحى، وهي تجرجر بين أصابعها تلك المسبحة ذات الحبيبات الخشبية السوداء، التي كانت تبدو بالتماعتها المطفــأة كأنها تشبه البسملة والحمدلة.
غابت تلك الجدّة التي كانت تحتال على الشمس في تنوع جلساتها في صحن البيت، فتجلس أحياناً في المساحة الشمسية الضاحكة لشمس الضحى، ثم تنتقل الى ذاك الظل القيظي اللاهب.
وتستعجل قدوم المساء كي تغافله بنعاسها المحبب الذي يظل يقيم بين الإغفاءة والنوم.
غابت تلك الجـــدّة التي كانت تحرض بنات البـــيت على المزيد من الأنوثة، ورجال البيـــت على مزيد مــن الفحولة، كانــت تفعل هذا وهي تعي أنها ترملت في مطلع شبابها، وقامت بتجفيف منابــع أنوثتها، ما جعلها تنذر حياتها لتشييد بيت العائلة من جديد، بعد الغياب الأبدي لكبير العائلة!
غابت الجدّة بيضة قبان العائلة والبيوت، وأم الأمهات وأم الآباء وتبددت مرة واحدة، وتركتنا وسط وحشتنا البيتية التي جعلتنا نصدق أنه يمكن التخلي عن الجدة، أو وضعها في بيت يسمى بيت المسنين!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .