الوقف الصحي وثقافة الوقف
الوقف منهلٌ عذب يشرب منه الصادي والغادي، ممن تمسهم الحاجة وتنال منهم الفاقة، شرعه الله تعالى لجبر خَلتهم وسَداد عوزهم، فيطعمهم إذا جاعوا، ويكسوهم إذا عروا، ويداويهم إذا مرضوا، ويؤويهم إذا أضحوا، ورتب على ذلك ثواباً عظيماً وأجراً لا ينقطع، فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وقد فطن الأخيار لذلك فوقفوا الضياع والعقار، والآبار وبساتين الثمار، والدرهم والدينار، فكان يعيش في كنف الوقف عموم الناس وخاصتهم، ولم يبقَ باب من أبواب البر إلا كان له من الوقف ما يكفيه بل يغنيه، لأنهم عرفوا منه المراد، فنفعوا به البلاد والعباد، وانتفع به الأحفاد بعد الآباء والأجداد. إلا أن ثقافة الوقف وقفت في الأزمان المتأخرة على بناء المساجد، وقلما تعدته إلى بناء المعارف في الرجال، ومداواتهم من الأوبئة العُضال، وهذا فهم قاصر، وإن كان كبير الأجر في الدار الآخِرة، فإن الأجر يتعاظم بعظم الأثر ونفع البشر، وليس هناك أنفعَ لهم من دواء، أو مأوى للاستشفاء؛ لما في ذلك من إحياء للنفس التي من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، ولا وراء ذلك إلا المرض المفَند، والموت المجهز، أما المساجد فتغني عنها الأرض الواسعة الأرجاء، فإنها كلها مسجد وطهور، لاسيما إذا كانت البلاد قد غصت بالمساجد والمصليات، فدُبَيّ التي هي عاصمة المال والأعمال، فيها من المآذن التي يرفع فيها ذكر الله بالغدو والآصال، ما يفي لكل الرجال والنساء والعيال، وليس فيها ما يفي بعض حاجتهم من الأسِرة و لا الأدوية من الأمراض المُرة، كما نشرته الصحف في تحقيقاتها المؤلمة. فمن الذي يبلغ رسالة الوقف الأغنياء الذين يريدون أن ينعموا بثواب إحياء النفوس في الدار الآخرة، والسعادة الغامرة في الحياة الفانية، وكم في الإمارات من الأغنياء الأخيار، المعدودين من كُبر التجار، على مستوى العالم أجمع، إلا أنهم لم يفطنوا لهذا الباب الواسع نفعه، الكبير أجره وخيره، وثناء الناس عليه وإذا تقاصر التجار الكبار عن ذلك فإن في الصغار خيراً وبركة، فيجتمع من قليلهم كثير، وإنما السيل اجتماع النقط إن حب الخير جِبِلة في النفس الإنسانية، إلا أن الوصول إلى منبع الخير يحتاج إلى إدراك معاني الخيرية التي تأتي من الفقه في الدين، كما أن إدارته تحتاج إلى تفهم لحاجات المسلمين، ومقاصد الواقفين، فليس من غايات الواقفين أن يكدسوا الأموال في الصناديق الوقفية، والحسابات البنكية، لتتكاثر في الخزائن، وتستثمر في غير طائل. إن الحاجة إلى نشر ثقافة الوقف الخيري لا تقل أهمية عن نشر ثقافة فقه المعاملات، والتوسع في الدروس والعظات، وهي ثقافة مزدوجة بين الواقفين والنظار، أما الواقفون فبأن يتفطنوا إلى أهم حاجات البشر، فما كان أكثر نفعاً فهو أعظم أجراً بغير خلاف، وليس هناك حاجة أمس من وقف مشفى، أو رَيع بناية أو تجارة لمداواة المرضى الذين يعَضهم المرض بنابه، فلا يجدون من يلوذون بجنابه، ليسعفهم من مرض، ويحقق لهم الغرض، وأما النظار فبأن يعوا مسؤوليتهم في حسن التصرف بمال الوقف، بما يعود نفعه للواقفين والموقوف عليهم، بحسن استثماره في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء .
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .