الفتاوى المصرفية

عقدت في دبي الدورة الثانية لمؤتمر الشرق الأوسط لتمويل الاستثمار الإسلامي قبل يومين، نظمتها «شركت إرنست آند يونغ»، وذلك لمناقشة أوضاع التمويل الإسلامي بعد الأزمة المالية العالمية الكاسحة، والتي خرج منها التمويل الإسلامي بأقل الخسائر. وقد كان الحديث عنه شيقاً نافعاً مقتضباً لكثرة المتحدثين الذين كان عامتهم ليسوا من أهل لساننا، وقد غاب فيه أهم عناصر المصرفية الإسلامية؛ وهم فقهاء المال وصُناع المصرفية الإسلامية، الذين أسسوا هذا العلم في وقت كان الاقتصاد الإسلامي ضرباً من ضروب الخيال، بسبب استحواذ المصرفية التقليدية (الربوية ) على العالم، بينما الفقه الإسلامي يزخر بالثراء لمنتجات شرعية تحل محل المنتجات الربوية أو الفاسدة، فكان هذا العلم أهم ابتكارٍ بشكل منظم لعلماء العصر المسلمين، يضاف إلى ابتكارات العلماء السابقين في مجالات مختلفة، وإن كان أصله سابقاً، إلا أن تدوينه وتنظيمه يعتبر ابتكاراً جديداً، ومفخرة من مفاخر علماء الإسلام اليوم. وقد كان الجميع على دراية كاملة بأهمية المصارف وشركات المال الإسلامية، التي تزيد اليوم على 600 بنك وفرع وشركة، بأصول تفوق تريليون دولار أميركي، كما صرح بذلك الأستاذ حسين القمزي الرئيس التنفيذي لبنك نور الإسلامي أحد الرعاة الرئيسِيْن للمؤتمر، وغدت أوسع وأسرع شركات التمويل والمصرفية نمواً في العالم، ويمثل 25٪ من السوق المالي الخليجي. إلا أن منظمي المؤتمر لم يُعنوا باستدعاء الفقهاء المعنيين بهذه الصناعة، وكأن المؤتمر لا يعنيهم، فقلتُ في نفسي وأنا الوحيد تقريباً الذي يتكلم بلسان عربي مبين: إن هذا المؤتمر يغرد خارج السرب، إذ كيف يتحدث المتحدثون من خلال تجاربهم وثقافتهم، والمعنيون لم يحظروا ليفيدوا عن نشأة الصناعة الإسلامية للمال، وعن منتجاتها ومشكلاتها وحلولها وأثرها وما ينبغي أن تكون عليه، فهم الذين يؤخذ عنهم هذا العلم، وهم الذين ابتكروا منتجاته، وهم المعنيون بتطبيقاتها شرعا.. فكان لابد أن يعطى القوس باريها { وَلَا يُنَبئُكَ مِثْلُ خَبِير}.

وقد كان حظي أن أتكلم عن دور الفتاوى الصادرة عن المجامع والمؤتمرات الفقهية والهيئات الشرعية في هذا الشأن ومدى إلزاميتها للهيئات العاملة في البنوك، فلما بينت أن الفتاوى لا تعني الإلزام القضائي والنظامي، وإن كانت تحمل إلزاماً أدبياً للسادة العلماء، نظراً لكونها صادرة عن دراسة وعناية فائقة هم الصائغون لها، فلمست أنهم ودوا لو سمعوا أنها ملزمة قانوناً ونظاماً، وأن على الجميع أن يتحرى ما يصدر عن المجامع وعن هيئة المعايير الشرعية (الأيوفي) فقلت: ليت ذلك كائن، لكن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. ولئن فات الإلزام الأدبي، فإن نشر فقه المال الإسلامي بين الناس كفيلٌ أن يوجد وعياً يمنع المرء تخطي ما يعلمه من أحكام هذه الصناعة، وعلى المعنيين من فقهاء ومستثمرين أن يهتموا بنشره بين الناس، ويفقهوهم بما يتعين أن يكون عليه التعامل الصحيح، ثم إن كل إنسان حسيب نفسه، وعندئذٍ سيكون الإلزام الطلبي. إلا أننا نرى الصمت من قبل المصارف عن توعية الناس بهذا الفقه، لتحمل الناس على التسليم بما تقدمه من دون نقاش، ولربما أصدرت وريقات شبه تعريفية لا تعني المزيد، ونرى التجاهل التام من قبل الهيئات الشرعية، اللهم إلا أن يكون نشاطاً مؤسسياً ذا رسوم وتسجيل! فمتى يكون الاقتصاد الإسلامي ثقافة ومناهج وسلوكاً؟! اللهم نرجو.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة