أبواب

نعم إنها «حضارة الفرجة»

خليل قنديل

ظل المبدع عبر قرون عديدة عاشتها الحضارات الإنسانية هو زرقاء يمامة هذه الحضارات وعينها الرائية لملامح المستقبل وتعاريج طرقه المجرّحة عادة بالدماء، وبقيت فراسة المبدع في المشاهدة المستقبلية لهذه الحضارة أو تلك هي السراج الذي تستنير به البشرية في صعودها الفكري والعلمي.

لكن من يراقب قرننا النيئ هذا لابد أن يكتشف أن حضارة بكامل دسمها المعرفي والإنساني تذهب نحو التسليع والتشيئ لكل مقدرات الانسان، وهي تجترح قيمها الجديدة القائمة على تجفيف الينابيع المعرفية التي أوصلت الإنسان إلى هذا المستوى من الرقي، والذهاب نحو تقزيم وتهميش الدور الريادي للمبدع، سواء كان أديباً أم مفكراً أم فناناً، والعمل على تخليق قوى طاردة لحذفه خارج مشهد التاريخ.

إن العين البشرية الناهبة لكل ما تبثه ثقافة ثورة الصورة باتت أسيرة القوى المشبوهة والناشطة ليل نهار لتسويق رموزها في الفن والرقص والغناء والرياضة والإعلانات السمجة في بث مباشر ومتواصل، إلى الدرجة التي باتت فيها هذه الرموز قادرة على احتلال المشهد العالمي، والعمل على تسييده في المخيال البشري.

ربما من هنا ومن هذا المنبت العميق لتزوير الجهد الإنساني ومصادرة قواه المعرفية ومحق رموزه الأدبية والفكرية أن نصدق أن العالم الآن بات يعمل ليل نهار على تسويق «حضارة الفرجة»، وهو عنوان كتاب صدر قبل أسبوعين للكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا عن دار افاعورارا الإسبانية للنشر، إذ يتوقع يوسا في كتابه هذا زوال الثقافة، وخسوف المفكر في المجتمع المعاصر.

ويندد يوسا في كتابه بالأهمية المفرطة التي تعطى للترفيه والتسلية في عالمنا، قائلاً: «يمنح المفكر أهمية إذا ما ساير لعبة الموضة وأصبح مهرجاً».

وينتقد الروائي صاحب «مديح الخالة» و«حفلة التيس» المساحة الواسعة التي تخصص للموضة، مشيراً إلى أن «الطهاة» ومصممي الأزياء استحوذوا على دور البطولة الذي كان رجال العلم والمؤلفون والفلاسفة يؤدونه في ما مضى. ويضيف أنه «في ثقافة التهريج هذه، السائدة في الوقت الحاضر، يكون لنجوم التلفزيون واللاعبين الكبار التأثير ذاته الذي كان للأساتذة والمفكرين، وقبل ذلك علماء الدين»، مؤكداً أنه لم يعد للفكر وزنه في «حضارة الفرجة».

والحال فإن ماريو يوسا في كتابه هذا يجعلنا نهتف ونحن نرى فراسته الرائية: نعم يا سيدي إنها «حضارة الفرجة» بالفعل، وعلينا أن نستعد لمتتاليات الخسائرالتي ستغزونا وتحتل رؤوسنا!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر