بيت بيوت

كانت بيوت الحي تتشابه إلى حد التطابق، غرفتان متجاورتان من الحجر والطين، تحيط بإحداهما «عريشة» متواضعة لها درجتان منخفضتان، على يمينها عادة حوض من «النعنع والميرمية»، وليكتمل المشهد التصويري، بعض الدجاجات تسير في قاعة الدار بشكل عشوائي لغايات الحركة فقط، كما يفعل الكومبارس في المسلسلات التاريخية، وحبل غسيل متدل بين خشبتين في قاع الدار، عادة ما يحمل ثياباً سوداء وبناطيل مقلوبة، زير الماء يدمع ماءً بارداً تحت ظل شجرة خوخ، أو على يمين الباب الخشبي لغرفة العائلة، لم يكن لدينا وسيلة غيره لتطفئ جذوة الصيف الملتهب في أجوافنا.

ولأن البيوت تتشابه وقريبة الى حد أن بعضها يسند بعضاً، فالقلوب كانت تتشابه أيضاً، وبعضها يسند بعضاً، مثلاً في مثل هذا الوقت من السنة، كانت الجارات يحضرن إلى بيتنا وقت الغروب يهدين أمي باقات من الزعتر البري، والخبيزة، والكزبرة، هو حاصل جمع يومهن الطويل في السهول الممتدة، ينجزن أعمالهن معاً، يقسمن همومهن بينهن، يراقبن بيوتهن من على عتبة غرفتينا المطلتين، يمشطن الشوارع خالية بنظراتهن، لا سيارات ولا ازدحام، يقضين قسطاً وافراً من النهار، وقبل المغادرة، كن يتفقن إما على موعد للقاء جديد، أو يستقرضن «طناجر» «بوابير الكاز»، غربال، دلة قهوة ـ أي شيء ـ من بعضهن بعضاً، فقط ليضمن التواصل من جديد.

في أول الليل يتجمع الساهرون من الرجال في عريشة أحد البيوت، يتبادلون الحديث على ضوء سراج معلق على الجدار، أو على ضوء قمر ناضج، تختلط ضحكاتهم بسعالهم، بصوت انسكاب الشاي في الأكواب، في صوت «الولاّعات القديمة» وهي تحاول أن تشعل سيجارة مبللة باللعاب والسهر، يقيمون الموسم، يتبادلون الدخان والنكات، وقبل أن ينتصف الليل، يفضّون السهرة ويغادرون إلى بيوتهم القريبة، يردون البوابات خلفهم، يطفئون سراج النعاس الذي يتدلى من جفون غرفهم، وينامون قريري الأعين.

❊❊

زمان كان العدل في الفقر غنىً.. أما الآن فالظلم في الغنى فقر..

ترى ما فائدة كل هذه البيوت الواسعة إذا كانت قلوبنا ضيقة؟

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة