رمضان والأولمبياد
من المصادفات لشهر رمضان المبارك هذا العام أن الألعاب الأولمبية ستكون فيه، فكان أمراً عجبا للاعبين الذين ستحضنهم المملكة المتحدة، فقد عكر صفو فرحتهم بالموسم الرياضي أن الصوم مع اللعب ضدان لا يجتمعان، وكأن اللعب من الفرائض التي زاحمت الصوم! والواقع أن الصوم فرض وقته لا يزاحمه غيره، والمسلم المكلف معنِي به قبل أن يفكر باللهو واللعب والمرح، وله في وظائف عمره أولويات يتعين ترتيبها، لئلا تتزاحم عليه الأشغال والواجبات، وإلا فسيفلس من كل شيء. نعم الصوم واللعب لا يجتمعان عند الحريص على دينه المنافس لمرضاة ربه وفي موسم عمره، فإن الموسم الشرعي يقدم على الموسم الوضعي، لأن الأول واجب على العين، والثاني ليس كذلك، ولأن الأول لا يعوض والثاني أمثاله كثير، ولأن الأول ثوابه عاجل وآجل، والآخر لا ثواب له إلا في العاجلة، فكيف يقدم الثاني مع كل ذلك؟! هذا من حيث الترتيب المنطقي للأمور الاختيارية، أما من حيث الأحكام الشرعية فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن الصيام عزيمة، ولا تنقض هذه العزيمة إلا بمرخص شرعي من سفر أو مرض أو نحوهما من الأعذار الثمانية التي يجمعها قول الناظم
حَبَلٌ وإرضاعٌ وإكراهٌ سفر مرضٌ جهادٌ جوعةٌ عطشٌ كِبر
وتسمى في الفقه عوارض الصوم، وليس منها اللعب، بل السفر المباح، وهو الذي لا يُنشأ لفعل المعصية، فمن سافر لعمرة أو طلب علم أو زيارة رحم أو لتجارة أو سياحة فهو من أهل رخص الفطر، بشرط ألا يقيم، أو يكون متوقع السفر في كل وقت لانقضاء حاجته. ولاعبونا الذين سيشدون الرحال ويتركون الأهل والعيال، إن كانوا يتنقلون بين المدن البعيدة قبل الإقامة القاطعة لرخصة الفطر، هم من أهل الأعذار المذكورين، إن أحبوا أن يترخصوا في الفطر فلهم في الفقه سَعة، فالرخص شرعت لإزالة المشقة ورفع الحرج، وقد ورد «ليس من البِر الصيام في السفر»، وهو محمول على ما إذا تضرر بالصوم مع السفر، وورد أن الصحابة كانوا يسافرون فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، وذلك للنص المحكم في المسألة {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَر} وإن كان الصيام أفضل مع عدم المشقة المرهقة لقول الله تعالى: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وهو الغالب من حال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان يفطر في سفر قط إلا ما كان منه يوم فتح مكة الذي جعل الفطر فيه عزيمة. والسر في ذلك فضيلة الشهر التي لا تدرك في الأيام الأُخَر، والثواب المضاعف الذي لا يكون في غيره، والشعور بالأنس والسعادة مع جماعة الصائمين، الذي لا يوجد مثله في غيره، ناهيك عن فتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران فيه، وتصفيد مردة الشياطين الذين يضلون عن سواء السبيل. فمثل ذلك كيف يعوض في غيره؟ وقد كان القدر العالمي اللازب لهذه الأولمبياد أن تكون في شهر الصوم الذي لم يحسب فيه لحال المشاركين من المسلمين، ولم يؤخذوا بالاعتبار، فما على المسلمين إلا أن يشاركوا بالمنهجية التي وضعت لهم، ولا حول لهم ولا طول إلا ما يجدونه في شرعهم بما تقرر من رخصة السفر.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .