أبواب
النورس جوناثان
في حوار مع المخرج المتميز خالد يوسف، بدا مندفعاً وممتلئاً حماسة لمرشح الرئاسة المصري حمدين صباحي، وقد شرح موقفه بوضوح لا مثيل له، لكنه أضاف جملة صغيرة في غاية الأهمية، حين قال: عندما يصبح حمدين صباحي رئيساً سنفترق، وسأصبح واحداً من معارضيه!
قد يبدو للوهلة الأولى ثمة تناقض ما في هذا الموقف، أن تكون مسؤولاً في حملة انتخابية لأحدهم، ثم تقرر أنك ستعارضه حين يصل إلى سدة الحكم. ولكن المتبصر يرى عكس ذلك.. يرى الفهم الحقيقي لجوهر المثقف وماهيته ودوره.
فالمخرج خالد يوسف لن يعارض حمدين صباحي لشخصه فيما لو صار رئيسا لمصر، ولكنه سيعارض الرئيس في حمدين صباحي. هذا يعني أن هنالك دائما مسافة نقدية وضرورية بين المثقف والسلطة، وعلى المثقف أن يحافظ على هذه المسافة، لكي يكون قادراً على الرؤية بوضوح أكبر. فأنت لا تستطيع تفكيك بنية ما وأنت منخرط فيها، ولذلك كانت أهم الكتابات الأدبية هي تلك التي غادر أصحابها بنيتهم الاجتماعية وقرأوها من بعد، مثل فوكنر وماركيز وغيرهما الكثير.
إن الانخراط في السلطة لا يجعلك قادراً على رؤية الحياة إلا من زاوية واحدة، وهي زاوية المتسلط والحاكم والمهيمن، ثم المستميت في الدفاع عن بعض المكتسبات رغم التفاوت بينها بالطبع. ولكن، لماذا معارضة السلطة دائما من قبل المثقف؟ أو لماذا تلك المسافة النقدية؟ في إيجاز لأن المثقف لا يقبل بالواقع مثلما هو حتى ولو بدا للآخرين عادلاً وآمناً وديمقراطياً، فهنالك دائما ما هو أكثر عدلاً وأكثر أمناً وأكثر ديمقراطية، هنالك ما هو أفضل دائما في الحياة، ومن وظيفة المثقف أن يبحث عن هذا الأفضل ويدعو إليه. هكذا يبدو الفرق واضحاً بين السلطة التي تعتبر وجودها سرمدياً وأبدياً، وبين المثقف الذي يعرف أن الحياة ابنة التطور والتقدم والتغيير إلى ما هو أفضل.
نتذكر هنا رواية النورس جوناثان الشهيرة.. ذلك النورس الذي كلما ارتفع واستدار بحركات جديدة وخطرة أمام أقرانه وذويه، قرر أنه قادر على ابتكار المزيد من الحركات المعقدة، وأنه قادر على الارتفاع أكثر، والهبوط كالسهم في حركة لم تعرفها النوارس من قبل.
هكذا يتبين لنا بوضوح، أن جوهر المثقف مرتبط بحريته، وبتطلعه دائماً إلى ما هو أفضل، من خلال عدم رضاه عما هو قائم وراهن. فطالما وصل المجتمع إلى مرحلة ما من التقدم والحرية والتحضر، فهذا يعني أنه قادر على الوصول إلى ما هو أبعد في الاتجاه الصحيح. ولكن، سيكون على المثقف أن يحارب على جبهتين، واحدة تشد المجتمع إلى الوراء، وهي أيديولوجيا ماضوية، وواحدة تحاول تمكين السكون من المجتمع، أي ان عليه أن يحارب تلك الاستاتيكية من جهة، بأن يعمل على تحريك المجتمع، لكنه في الوقت نفسه مطالب، و هو يجد نفسه حينها مضطراً لمنع الماضويين من شد البنية الاجتماعية إلى الوراء. ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن المثقف وحده لن يكون قادراً على ذلك، من دون توفير عوامل أساسية تعينه ويستغلها من أجل حلمه. فهنالك العوامل البيئية والسياسية والثقافية العامة التي ينبغي للمثقف أن يفهمها جيداً لكي يجيد الحركة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .