طولُ العمر وطول الأثَر

طول العمر أُمنِية كل حي، وغاية كل عاقل، فالكل يكره الموت ويحب الحياة، ويتمنى أن تصفو له لذة العيش، وتمتنع منغصاته، وهذا أمر محمود، فقد سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خير الناس، فقال «من طال عمره، وحسن عمله»، إلا أن ذلك ليس بيد المرء، فالآجال محدودة، والأرزاق معدودة، لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، ولا يغنيه حذر من قدر، ولا من القدر مفر، تلكم هي الحياة التي كتبها الله للمرء وهو في بطن أمه، إذْ أُمر الملَك أن يكتب أربعاً: عمله، وأجله، ورزقه، وشقياً أو سعيداً، ويظن كثير من الناس أن الحياة وقفت بالموت، وطويت صفحة المرء وهذا خطأ محض.

فلو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء

فإن الحياة للمرء لا تنقطع بموته، بل هي متصلة بعد الموت، كما كانت في حال الحياة إذا أحسن استغلال حياته بما يجعل لنفسه من ذكر حسن وأثر طيب، كما قالوا:

قد مات قوم وما ماتت مآثرُهم وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ

أو كما قال شوقي: ... فالذكر للإنسان عمر ثاني، وهو ما أشار إليه الحق سبحانه بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}.

إن الأثر الطيب الذي يتركه المرء بعد وفاته هو عمْرٌ آخر، فبه يُذكر، فيثنى عليه، فيكون سبباً لعفو الله تعالى عنه، ويدعى له بسببه فيقبل الله تعالى دعوة الداعين ويكرمه بحسن المآب، ويعمل الناس بعلمه أو ما تركه من خير لوجه الله فيجري له ثواب العاملين، كأنه لم يزل يعيش ويعمل.

تلكم هي الحياة الثانية التي يحرص عليها عقلاء البشر، الذين عرفوا سرعة فناء الدنيا وتقلبها فعملوا لأنفسهم ما يجعل حياتهم متصلة غير منقطعة، كما كان ممن شيعناه بالأمس، المرحوم بإذن الله تعالى: محمد بن عبدالرحمن الأشرم، الذي لم يُعرف بين الناس إلا بدماثة الخُلق، ولين الجانب، وكمال الصلاح، وكثرة الصلاة، وفعل الخير، والقرب ممن يعرفه ومن لا يعرفه، عُرف بمحبته للناس وفعل الخير لهم، عُرف بتلمس حاجات الفقراء ومخالطتهم، ومحبة الصالحين وأولي العلم والأنس بهم واستضافتهم، عرف بعفة اللسان وطيب الجنان، والمسابقة إلى ما يرضي الملك الديان، يشهد له بذلك القاصي والداني. ها هو فارقنا لجوار ربه -إن شاء الله- في جنات ونهَر، في مقعد صدق، ومنزل كرامة، فهو لم ينقطع من حياته، إذ:

ليس من مات فاستراح بميْت إنما الميْت ميت الأحياء.

نعم الحياة الدنيا مرحلة من مراحل الحياة، إلا أنها أقصر المراحل مهما طالت، فما هي إلا كمن دخل من باب وخرج من آخر، أو كقائل استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، وتتلوها مراحل أخرى هي أطول، بل لا نهاية لها، فهي كما قال الله تعالى عنها: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِن الدارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، ولا تكون حياة سعيدة ناعمة إلا أن تبذر في الدنيا، وإلا فإنها ستكون تعيسة مريرة.

نسأل الله حسن الختام والموت على دين الإسلام بعد عمر طويل وحسن عمل.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة